تساؤل جذري لا بد أن يتولد لدى من يطالع ما تعمل شركات التكنولوجيا عليه حالياً سواء لجهة تصنيع آلات تقوم بجميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان، أو لجهة البرمجيات التي يبدو أنها ستخرج من يد الإنسان مع تطور الذكاء الاصطناعي الذي سيمكنه الاستغناء عن المبرج البشري ليدير برمجته بنفسه، فماذا سيبقى للإنسان من وظيفة لا يمكن للآلة والذكاء الاصطناعي أن يأخذها منه؟ الجواب في واقع وجود برامج كومبيوتر يمكنها إنتاج الموسيقى واللوحات الفنية لكن لا تباع بقيمة أغلى من الذهب كالتي ينتجها الإنسان، ولذا يبدو بالمستقبل سيقتصر عمل الإنسان على مجالات التفكير الخلاق، وهذا النمط حتى الآن لا يمكن تطويره عبر الشهادات الأكاديمية؛ لأن التعليم قائم على نمط «التفكير الخطي» أي القائم على الالتزام بتطبيق نموذج محدد موحد للعمل، بينما صنع عقل خلاق يتطلب منهجية غير خطية؛ «اينشتاين» رمز العبقرية العلمية ذكر أهمية عزفه للموسيقى لجعله يفكر بشكل خلاق بالمبادئ العلمية، و«ستيفن جوبز» عبقري الأجهزة الذكية صرح أن المعرفة الميتافيزيقية والروحية هي أكثر ما ساعده بعمله، لذا صنع عقل خلاق أيّاً كان مجال عمل الإنسان يقوم على تغذية الإنسان لعقله بأنواع الموارد والخبرات والاهتمامات والمؤثرات الفكرية والفنية والأدبية والمعرفية «اعرف شيئاً عن كل شيء، واعرف كل شيء عن شيء واحد» وهي ستتفاعل فيما بينها وتخصب خياله، وتحرر عقله من محدودية صندوق التخصص، وهناك مواقع عالمية تطرح المعضلات المستعصية بالمجالات المختلفة بتكليف من شركات وجهات علمية ويكون مفتوحاً للخلاقين تقديم حلول لها، ومن لديه الشغف بمجال ما يتعمق فيه بدافع شخصي بشكل يزيد على ذلك الذي تتطلبه الدراسة الأكاديمية، وحسب دراسات قارنت بين المنتجات الحاسوبية التي عمل عليها المتخصصون بأكبر الشركات العالمية وبين التي تسمى بـ«مفتوحة المصدر» أي عمل عليها متطوعون من أنحاء العالم عبر الإنترنت تبين أن مفتوحة المصدر كانت أفضل من منتجات الشركات لأن مفتوحة المصدر تستفيد من أصحاب العقول الخلاقة والذين يملكون الشغف والمعرفة غير المقيدة بصندوق تخصصهم، كالفارق بين الشاعر والبروفيسور المتخصص بالشعر الذي لا يمكنه تأليف بيت شعر واحد، ولذا الدول التي تريد ارتياد الموجة المستقبلية وخاصة إن لم تكن تمتلك بنية تحتية صناعية، فستكون العقول الخلاقة أكبر مصدر دخل بالنسبة لها، ويمكن حالياً معرفة إن كان لدى الشركات استشراف للمستقبل وركوب لموجته بوجود وظيفة تسمى «العقل الخلاق-creative mind» ودور من يعملون فيها هو إنتاج الأفكار المبدعة والحلول التي خارج الصندوق والبدائل المستجدة والتصورات المستقبلية، بالمقابل بالواقع العربي لا يوجد تقدير للقيمة الإنتاجية للتفكير الخلاق لذا يضطر الخلاق للتخلي عنه لصالح وظيفة عادية تؤمن احتياجاته المعيشية، وحسب الأبحاث حول ما يساعد الإنسان على تطوير التفكير الخلاق، فالناس بمنطقتنا يفترض أنهم أكثر قابلية من الغربيين لأن يكون لديهم تفكير خلاق؛ لشيوع إتقانهم أكثر من لغة، واطلاعهم على ثقافات مختلفة كثقافات شرقية لديهم شغف بإنتاجاتها الفنية والثقافة الغربية التي تعتبر من المؤهلات الاساسية، وغالباً لا يعملون حتى ينهون تعليمهم ولذا يقضون وقت فراغ كبير بمطالعات ونشاطات متنوعة، ونسبة سفرهم للسياحة والتعليم بالخارج أعلى من الغربيين، وكلها تعزز مرونة الدماغ اللازمة للتفكير الخلاق، بينما الغربي غالباً لا يجيد غير لغته الأم ولا اطلاع لديه على الثقافات الأجنبية ويعمل أثناء الدراسة بما لا يترك له وقتاً للمطالعات الموسعة، لكن لا يحظى ابن المنطقة بفرصة لإثبات امتلاكه لعقلية خلاقة بسبب عقدة الخواجة «لا يكرم نبي في قومه» «مطرب الحي لا يطرب».