أكادُ أجزمُ أن ما تعرّضت له الجامعة العربية في تاريخها لم تتعرض له مؤسسة أو منظمة في العالم، فالمظلة الجامعة، أو الجامعة المظلة بمثابة الأم التي يشكي لها كل أبناؤها وبناتها مواجعهم، فلا تملك إثر انفطار قلبها، مما تسمع وترى، إلا كشف رأسها، وتجأر إلى الله بصادق الدعوات أن يريّحها أو يُصلح الحال.
طبيعي أن تنعدم رؤية الأم ويقل شوفها وتتعثر في مشيتها، وتترهل، وينحني صُلبها مع تكاثر الهموم والأحزان وتوالي شكاوى فلذات الأكباد، فكثرة اللطم تعمي، ووفرة الدق تفك اللحام، وزيادة الدويّ تغلب السحر، وتعدد الشكوى وتنوعها يهد الحيل، إن لم تكن لدى المُشكى عليها حلول.
تعرفتُ على الجامعة باسمها لأول مرة عندما كان عمري في التاسعة ومن المذياع، طرق سمعي اسم محمود رياض، وعصمت عبدالمجيد، بالطبع كان لبريطانيا ولرئيس وزرائها (أنتوني إيدن) فضل في تأسيس جامعتنا، وتسييسها ربما، لتمرير أو تيسير غايات إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ولطالما اضطررنا ونحن ننتظر التمثيلية الإذاعية، (متابعة النشرة)، التي لا تغيب عنها (جامعة المواجع) ليعقب النشرة برنامج خبر وتعليق للراحل حسين العسكري، وتقديم بكر باخيضر، وهو غالباً مخصص للقضية المركزية.
وفي الثالثة عشرة من عمري، دخل التلفزيون بيتنا، وكان مسلسل السهرة غاية ومقصداً لمشاعر جيل عاشق لكل ما يدغدغ مشاعره، ويُربّي ذائقته الجمالية، ولابد من مشاهدة نشرة التاسعة والمفتتحة موجزها غالباً بانعقاد اجتماع للجامعة الأم؛ لمناقشة قضية العرب، وكم تابعنا الرحلات المكوكية لأمناء جامعتنا الشاذلي القليبي، وعمرو موسى، ونبيل العربي، طيلة ثلاثة عقود، وهم يتنقلون بين العواصم في سبيل تفادي القواصم.
كانت للعرب قضية واحدة، بالإمكان حلها، وكلما أوشكت الجامعة على جمع الأصوات على قرار يُنهي المعاناة، ويحقق السلام، يتبرع أحد الجلاوزة بتفخيخ الجلسات، وإذكاء نيران الصراعات، ويفرقع الجمع، بالخروج على النص، ويُدخل عباس في دبّاس، ويُهمّش المتن، ويُمتّن الهامش، لتُعاد القضية المركزية بهذا النزق الثوري أو المستثور للمربع الأول، وربما لم تمر بعض القمم العُليا دون انحدار باللغة إلى القاع.
أسهم بعض من أوهمونا بذواتهم المتضخمة في تحويل قاعات الجامعة لمفرخة إشكالات، وتخصصت بعض الزعامات في التأزيم، وتوزيع الاتهامات، والفبركات، والمُخاتلة، وأعلنت جامعتنا المغلوبة على أمرها، أو المغلوب أمرها عليها عجزها مراراً عن توفير الحلول، كون العرب من عهد عدنان وقحطان ليسوا على قلب رجل واحد، ولأن حساسيتهم من بعض أشد من حساسية مريض الربو من الغبار والأدخنة، فلا يحتمل عربي زلّة عربي شقيق، وكأنما العروبة لعنةٌ وعقاب.
البعض من العرب يشتكون من تضاؤل دور الجامعة، دون أن يعترف بسبب الضعف أو الإضعاف، والجامعة تشتكي من تراجع التمويلات وتفاقم الأزمات، وكأنها تقول بلسان الحال كان عندنا قضية مركزية واحدة، وفائض مالي وأخلاقي، وما ساعدنا أهلنا على حلّ قضية واحدة، وتبغوني أحلّ أزماتكم اللامتناهية دفعة واحدة؟
كنتُ ومعي ملايين الأشقاء العرب نتمنى أن يخرج صدام من الكويت، دون اضطرار الاستعانة بقوى العالم الأول والثاني والثالث، وكنا نتوقع أن العرب الذين يأخذون بعضهم في القمم بالأحضان، ويتفادون بعضهم بالأرواح متفقون على البيان الختامي المُعيد الودّ محله والساد لكل ذرائع الفُرقة، ولم نكن ندري ماذا يُدار في الخفاء، وما يكتنف الأهواء، حتى هلّ عصر الفضائيات، فدارت بنا رؤوسنا ونحن ندوّر بين المحطات خبراً سعيداً، يطمننا أن القمة انتهت بسلام، دون أن يغلط أحد على أحد، وجاء اليوم الذي كشف فيه (اليوتيوب) أبو ذمة من أبو ذمتين، وأبو وجه وأبو عشرين وجه وقناع، ونادى البعض بفتح الملفات، ولكن ما نفع فتح ملفات متهمين معظمهم بين يدي رب العالمين؟
ليس بيني وبين جامعتنا العربية آية خلافات، ولا بيننا مشاكل، وهي مش ناقصة، واللي فيها مكفيها، لكني مواطن عربي، أو عروبي، أشعر بأن الجامعة بيتنا الذي ينبغي ألا يدخله شامت، وأثق بكل معنى الوثوق في صادق نوايا أمينها الحالي السيد أحمد أبو الغيط، وفريق عمله، وأتمنى لهم التوفيق، وإن كانت الأمنيات وحدها لا تصنع معجزات.
وأتساءل: هل تطورت آلية عمل الجامعة، واستقطبت كوادر كارزمية، مسنودة بقيادات لها قبول، وماذا عن إضافة برلمان عربي، وبرلمانات للشباب والمرأة؟ وأين دورهم؟
أعلم أن الجامعة تشتكي من قلة الدعم المالي، وأتصوّر الدعم المالي كمن حط يده على خده، معيداً النظر في مؤسسة تستنزفه، وتستهلك معه وقتا ومالا وورقا، والنتائج والغايات والأهداف، خجولة، ومترددة، ولا ترقى لما يطمح إليه العرب فُرادى ومجتمعات.
سألتمس الكثير من الأعذار لجامعتنا، فالقضية الوحيدة فرّخت قضايا، وربما تغيرت الأولويات، عندما غدت لكل دولة قضاياها وأزماتها، فالذي في زمان مضى كان مهيئاً للدعم والتفكير بهدوء، لم يعد كذلك، فكلٌ يرى اليوم قضيته مركزية، وينبغي أن تكون لها الأولوية في المناقشة والدعم.
لم تعد الجامعة معنيّة كثيراً بالشأن الثقافي، ففي ظل الأحداث الدامية، تغدو الثقافة ترفاً لا معنى له، ولا هي مشغولة بالفنون، فالفن يحتاج راحة بال، وربما لم يعد يدور في بالها الفقر والأميّة والحريات والمساواة، وتطوير التعليم والشراكات، مما كان يرد في البيانات الختامية، فالشقُّ أكبر من الرُّقعة.
ومع كل قمة تنعقد، أو اجتماع تدعو له الجامعة، نضع أيدينا على قلوبنا، مرددين ؛ اللهم سلّم سلّم، مع تثمين حرص أمانة الجامعة على التوافقات، وألّا تتحول اجتماعاتها إلى ذريعة للانقسامات والانفعالات والملاسنات، فخلافات العرب انعكست سلباً على جامعتهم، وإذا فشلت الجامعة في تقريب وجهات نظر القادة والحد من تشظيهم، فهل ستنجح في استمرار المحافظة على تأليف قلوب الشعوب؟ أرجو ذلك، فذاك رأسمالنا الذي لا نطمح في تنميته بأرباح.
طبيعي أن تنعدم رؤية الأم ويقل شوفها وتتعثر في مشيتها، وتترهل، وينحني صُلبها مع تكاثر الهموم والأحزان وتوالي شكاوى فلذات الأكباد، فكثرة اللطم تعمي، ووفرة الدق تفك اللحام، وزيادة الدويّ تغلب السحر، وتعدد الشكوى وتنوعها يهد الحيل، إن لم تكن لدى المُشكى عليها حلول.
تعرفتُ على الجامعة باسمها لأول مرة عندما كان عمري في التاسعة ومن المذياع، طرق سمعي اسم محمود رياض، وعصمت عبدالمجيد، بالطبع كان لبريطانيا ولرئيس وزرائها (أنتوني إيدن) فضل في تأسيس جامعتنا، وتسييسها ربما، لتمرير أو تيسير غايات إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ولطالما اضطررنا ونحن ننتظر التمثيلية الإذاعية، (متابعة النشرة)، التي لا تغيب عنها (جامعة المواجع) ليعقب النشرة برنامج خبر وتعليق للراحل حسين العسكري، وتقديم بكر باخيضر، وهو غالباً مخصص للقضية المركزية.
وفي الثالثة عشرة من عمري، دخل التلفزيون بيتنا، وكان مسلسل السهرة غاية ومقصداً لمشاعر جيل عاشق لكل ما يدغدغ مشاعره، ويُربّي ذائقته الجمالية، ولابد من مشاهدة نشرة التاسعة والمفتتحة موجزها غالباً بانعقاد اجتماع للجامعة الأم؛ لمناقشة قضية العرب، وكم تابعنا الرحلات المكوكية لأمناء جامعتنا الشاذلي القليبي، وعمرو موسى، ونبيل العربي، طيلة ثلاثة عقود، وهم يتنقلون بين العواصم في سبيل تفادي القواصم.
كانت للعرب قضية واحدة، بالإمكان حلها، وكلما أوشكت الجامعة على جمع الأصوات على قرار يُنهي المعاناة، ويحقق السلام، يتبرع أحد الجلاوزة بتفخيخ الجلسات، وإذكاء نيران الصراعات، ويفرقع الجمع، بالخروج على النص، ويُدخل عباس في دبّاس، ويُهمّش المتن، ويُمتّن الهامش، لتُعاد القضية المركزية بهذا النزق الثوري أو المستثور للمربع الأول، وربما لم تمر بعض القمم العُليا دون انحدار باللغة إلى القاع.
أسهم بعض من أوهمونا بذواتهم المتضخمة في تحويل قاعات الجامعة لمفرخة إشكالات، وتخصصت بعض الزعامات في التأزيم، وتوزيع الاتهامات، والفبركات، والمُخاتلة، وأعلنت جامعتنا المغلوبة على أمرها، أو المغلوب أمرها عليها عجزها مراراً عن توفير الحلول، كون العرب من عهد عدنان وقحطان ليسوا على قلب رجل واحد، ولأن حساسيتهم من بعض أشد من حساسية مريض الربو من الغبار والأدخنة، فلا يحتمل عربي زلّة عربي شقيق، وكأنما العروبة لعنةٌ وعقاب.
البعض من العرب يشتكون من تضاؤل دور الجامعة، دون أن يعترف بسبب الضعف أو الإضعاف، والجامعة تشتكي من تراجع التمويلات وتفاقم الأزمات، وكأنها تقول بلسان الحال كان عندنا قضية مركزية واحدة، وفائض مالي وأخلاقي، وما ساعدنا أهلنا على حلّ قضية واحدة، وتبغوني أحلّ أزماتكم اللامتناهية دفعة واحدة؟
كنتُ ومعي ملايين الأشقاء العرب نتمنى أن يخرج صدام من الكويت، دون اضطرار الاستعانة بقوى العالم الأول والثاني والثالث، وكنا نتوقع أن العرب الذين يأخذون بعضهم في القمم بالأحضان، ويتفادون بعضهم بالأرواح متفقون على البيان الختامي المُعيد الودّ محله والساد لكل ذرائع الفُرقة، ولم نكن ندري ماذا يُدار في الخفاء، وما يكتنف الأهواء، حتى هلّ عصر الفضائيات، فدارت بنا رؤوسنا ونحن ندوّر بين المحطات خبراً سعيداً، يطمننا أن القمة انتهت بسلام، دون أن يغلط أحد على أحد، وجاء اليوم الذي كشف فيه (اليوتيوب) أبو ذمة من أبو ذمتين، وأبو وجه وأبو عشرين وجه وقناع، ونادى البعض بفتح الملفات، ولكن ما نفع فتح ملفات متهمين معظمهم بين يدي رب العالمين؟
ليس بيني وبين جامعتنا العربية آية خلافات، ولا بيننا مشاكل، وهي مش ناقصة، واللي فيها مكفيها، لكني مواطن عربي، أو عروبي، أشعر بأن الجامعة بيتنا الذي ينبغي ألا يدخله شامت، وأثق بكل معنى الوثوق في صادق نوايا أمينها الحالي السيد أحمد أبو الغيط، وفريق عمله، وأتمنى لهم التوفيق، وإن كانت الأمنيات وحدها لا تصنع معجزات.
وأتساءل: هل تطورت آلية عمل الجامعة، واستقطبت كوادر كارزمية، مسنودة بقيادات لها قبول، وماذا عن إضافة برلمان عربي، وبرلمانات للشباب والمرأة؟ وأين دورهم؟
أعلم أن الجامعة تشتكي من قلة الدعم المالي، وأتصوّر الدعم المالي كمن حط يده على خده، معيداً النظر في مؤسسة تستنزفه، وتستهلك معه وقتا ومالا وورقا، والنتائج والغايات والأهداف، خجولة، ومترددة، ولا ترقى لما يطمح إليه العرب فُرادى ومجتمعات.
سألتمس الكثير من الأعذار لجامعتنا، فالقضية الوحيدة فرّخت قضايا، وربما تغيرت الأولويات، عندما غدت لكل دولة قضاياها وأزماتها، فالذي في زمان مضى كان مهيئاً للدعم والتفكير بهدوء، لم يعد كذلك، فكلٌ يرى اليوم قضيته مركزية، وينبغي أن تكون لها الأولوية في المناقشة والدعم.
لم تعد الجامعة معنيّة كثيراً بالشأن الثقافي، ففي ظل الأحداث الدامية، تغدو الثقافة ترفاً لا معنى له، ولا هي مشغولة بالفنون، فالفن يحتاج راحة بال، وربما لم يعد يدور في بالها الفقر والأميّة والحريات والمساواة، وتطوير التعليم والشراكات، مما كان يرد في البيانات الختامية، فالشقُّ أكبر من الرُّقعة.
ومع كل قمة تنعقد، أو اجتماع تدعو له الجامعة، نضع أيدينا على قلوبنا، مرددين ؛ اللهم سلّم سلّم، مع تثمين حرص أمانة الجامعة على التوافقات، وألّا تتحول اجتماعاتها إلى ذريعة للانقسامات والانفعالات والملاسنات، فخلافات العرب انعكست سلباً على جامعتهم، وإذا فشلت الجامعة في تقريب وجهات نظر القادة والحد من تشظيهم، فهل ستنجح في استمرار المحافظة على تأليف قلوب الشعوب؟ أرجو ذلك، فذاك رأسمالنا الذي لا نطمح في تنميته بأرباح.