الناس كثيراً ما يضطرون بعضهم للكذب لأن الصدق يبدو غير مقنع لبساطته ويتطلبون سبباً درامياً ليعتبروه مقنعاً، مثل عدم قبول جهة الدراسة أو العمل لعذر صادق بسيط للتأخر مثل أنه لم يستيقظ على المنبه، ويضطرون الشخص لفبركة عذر عائلي درامي لكي يقنعهم بعدم معاقبته، وأكثر مجال يحصل فيه هذا الأمر هو مجال العلاقات والتفاعلات الاجتماعية لتبرير عدم الرد على اتصالات ومراسلات الآخرين وعدم حضور دعواتهم ومناسباتهم، والكذب غالباً ينكشف ويتسبب بحصول خصومة وقطيعة لأن الطرف الآخر يأخذ الأمر على محمل شخصي كما ولو أنه إساءة متعمدة، وأكبر سبب لعدم رد وتجاوب الناس مع اتصالات ومراسلات ودعوات بعضهم قد لا يمكن للشخص نفسه أن يعبّر عنه بشكل مقنع لغيره ويتمثل هذا السبب في الافتقار «للطاقة النفسية» اللازمة للقيام بتلك الأمور؛ فكل حركة وسكنة بالحياة تتطلب من الإنسان طاقة نفسية للقيام بها، لكن كثيراً ما يكون الأشخاص مستنفدين نفسياً بشكل كامل، أي نضبت طاقتهم الحيوية النفسية إما بسبب الاحتراق الوظيفي أو العائلي أو الاقتصادي أو الصحي أو المعاناة من الاكتئاب وغيرها من الأسباب ولم يبقَ لديهم ما يكفي من الطاقة النفسية ليردوا على اتصال ورسالة إلكترونية مهما أرادوا ذلك وشعروا بتأنيب الضمير على عدم القيام به، ونضوب الطاقة النفسية وراء كثير من ظواهر انخفاض وتدهور أداء الإنسان الدراسي أو العملي ولذا العقوبات لا تفيد في تصحيحها، كما أن اللوم والعتاب والتوبيخ والتقريع والخصومة مع من لا يتبادل التواصلات الاجتماعية أيضاً لا يفيد في زيادة رغبة الشخص للقيام بها، وقد يضطر للقيام بها غصباً عنه وهو كاره لها بسبب إرادته تجنب التعرض للوم والتقريع على عدم رده على تواصلات الآخرين، وبهذا يضاعف الآخرون من مشكلته النفسية بمثل هذه الضغوطات السلبية عليه، والتواصلات مع الآخرين يفترض أنها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، فالغاية هي تكريس علاقة المودة والدعم المتبادل، لكن إن تمت التواصلات الاجتماعية بسبب الإكراه المعنوي تحت ضغط الرغبة في تجنب التقريع واللوم فلن تتحقق تلك الغاية إنما سيترسخ ما يضادها، ولذا الإنسان عليه أن يتجاوز نفسه في تعاملاته مع الآخرين ويفكر بالعلاقات والتفاعلات الاجتماعية من وجهة نظر الآخرين وأحوالهم وليس فقط من وجهة نظره وإرادته، وأحيانا أفضل ما يمكن فعله لأجل الآخرين هو منحهم مساحة كافية من الخصوصية لتجاوز أزمة ما يمرون بها بالشكل المناسب بالنسبة لهم الذي قد يتضمن الرغبة في اعتزال التفاعلات الاجتماعية في الفترة الراهنة بسبب عدم امتلاكهم للطاقة النفسية اللازمة لها، وعدم الإلحاح عليهم للرد والتجاوب، فالإلحاح إكراه معنوي، والكره يأتي من الإكراه، ولذا يجب أن يصبح عذر عدم امتلاك «طاقة نفسية» للرد وللمبادرة وللتجاوب مع الاتصالات والمراسلات والتفاعلات الاجتماعية عذراً مقبولاً إن كان الناس يريدون أن تكون المودة بعلاقاتهم حقيقية، وأحياناً كثيرة يكون سبب استنفاد «الطاقة النفسية» لبعض الأشخاص هو فقط اضطرار الآخرين لهم للتواصلات والتفاعلات المكثفة بينما هذا يخالف طبيعة شخصياتهم؛ «فالشخصية الانطوائية» على سبيل المثال تشعر بالإرهاق النفسي إن قامت بتواصلات وتفاعلات اجتماعية مكثفة تتجاوز أوقات الخصوصية والعزلة والوحدة التي تعتبر بمثابة حاجة نفسية أساسية بالنسبة للانطوائي حتى ضمن العائلة في البيت الواحد، بعكس الشخصية التي تسمى في علم النفس «بالانبساطية/الاجتماعية» أو الحركية التي تزداد حيوية وطاقة مع كثافة التواصلات والتفاعلات الاجتماعية، فلا يوجد قالب واحد للتفاعلات الاجتماعية يصح تعميمه على الجميع، وطبيعة شخصية الإنسان هي شيء يولد به ولا يمكنه تغييره ولا تغيير طباعه.