-A +A
علي بن محمد الرباعي
عاد أحد الأصدقاء، مؤخراً، من سفرة قصيرة لعاصمة عربية، وسألته عن الأوضاع، فأجاب: الناس ضاجة من الغلاء. قلت: الغلاء ظاهرة تاريخية عبّر عنها القرآن ضمن سياق الوفرة والنُدرة، كما في سورة يوسف عليه السلام، وجاءت المعالجات الممكنة لذلك العصر وذلك الظرف في السورة ذاتها، وفي زمن النبي عليه الصلاة والسلام، حين غلت الأسعار فقال النَّاسُ يا رسولَ اللَّهِ، غلا السِّعرُ، فسعِّر لَنا، قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ هوَ المسعِّرُ القابضُ الباسطُ الرَّازقُ، وإنِّي لأرجو أن ألقَى اللَّهَ وليسَ أحدٌ منكُم يطالبُني بمَظلمةٍ في دمٍ ولا مال». أي أن الرخاء مرتبط بعوامل إنتاج لا غنى لها عن مشيئة الله وقدره، كما أن الشِّدة لها حيثيات، والسوق يقوم على معطيات العرض والطلب.

لا ريب أن زمن النبوة زمن حقيق بالمعجزات، والمُبهجات والكرامات، إلا أنه (زمن إنساني) يعتوره الضيق، وتعتريه الأسقام، وتعبر به، وفيه، وإليه أحوال متقلبة، فالله جلّ في علاه وضع نظاماً مُحكماً للكون يسير وفق قوانين وسنن ثابتة ومتغيرة «يمحو الله ما يشاءُ ويُثبت وعنده أمُّ الكتاب»، ولربما تقع جائحة أشبه بسيئة الذكر (كورونا) وتعلّق نشاط العالم، وبرغم أن للنبي عليه السلام قدرات، وخوارق إلا أن المصطفى عليه الصلاة والسلام أحال شكوى الناس من ارتفاع أسعار السلع على اقتصاديات السوق.


لا خلاف اليوم على تنامي الغلاء المعيشي على مستوى العالم، ونقرأ ونسمعُ آراء، ووجهات نظر، إمّا متخصصة يطرحها ويقدمها محللون اقتصاديون، وهي غالباً محل قبول، كونها تندرج في مفهوم ومنطوق «أنتم أعلمُ بشؤون دنياكم» ويشارك في التناول خطاب أقرب للفلسفة، يقوم على التساؤل، والتوجس، والتشكيك أحياناً في الإدارات والإرادات، وهذا متفهّم، كما يحضر الخطاب الآيديولوجي غير الموضوعي، ويُقحم نفسه، نافخاً في بالون الغلاء، ليستثير المشاعر، ولا يزال يعد المجتمعات، فيما لو تسلّط عليهم، بالمن والسلوى.

من سمة خطابات الإسلامويين عبر التاريخ أنها تحريضية للمواطنين ضد أوطانهم، دون اقتراح أية حلول عملية، ورموزهم من أكثر الأفراد استهلاكية، ويظل للخطاب الشعبي المجالسي مساحته للتنفيس، وأحياناً تسمع تحليلات مُدهشة.

استوقفني اعتذار النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن التدخل في الأسعار بما تضمنه رده على طالبي (التسعير) من رسالة، إذ لو كان النبي عليه الصلاة والسلام صاحب سلطة أو قرار؛ لتدخل بوصفه الحاكم، إلا أنه أحال المشكلة برمتها على الواقع الذي لا ينكره الناس، فالعلاقة بين النبي عليه السلام وبين المجتمع علاقة وصل بين الله وخلقه، يُبلّغ ما يصله من وحي للناس.

بينما علاقة الحاكم مع الشعب علاقة دنيوية، تقتضي معالجات آنية ومستقبلية، بموجب العقد الاجتماعي، الذي يحتّم على ولي الأمر تحمّل مسؤولياته المقررة بموجب النصوص، أو نظام ودستور الدولة.

وقضية التسعير تحضر هذه الأيام؛ بسبب ارتفاع أسعار وقِيم السلع، ولا أستبعد أن يقحم الإسلام السياسي نفسه، شأنه في الأزمات، لتأجيج الفتنة عبر حديثه المستمر عن أزمنة الرخاء، ورغد العيش، الذي وفره الحكم الإسلامي، ويرسم لنا صورة نرجسية عن أزمنة كانت أشد قسوة، مما لحق.

ولو عاد المتأزمون للموضوعية لأيقنوا أن آخر خلافة إسلامية يتمدحون بمجدها «سفّ الناس، في كنفها المدر، وتخرطوا أوراق الشجر»، فلا تلازم بين الحكم الإسلاموي والرخاء والرفاهية، بل هناك مهارات ومواهب، تُحسن التعامل مع واقع تفرضه المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويرتبط بأدوات الإنتاج، وهي على سبيل المثال في المجتمع الفلاحي (التربة الصالحة للزراعة، والماء، والبذور، واليد العاملة، والآلة)، ويلحق بها ما أنجزت البشرية من أدوات الحصاد والتسويق والتوزيع ونقاط البيع وآلية العرض، وغيرها.

وإذا ما شحّت الموارد فمن الطبيعي أن تقلّ السلع، ويقع الاحتكار، ويرتفع السعر، وبما أن النبي عليه السلام، أوكل معالجة الغلاء إلى الله، فمعنى ذلك الصبر، وانتظار الفرج والبحث عن بدائل معيشية إن أمكن.

ولعل مما يورّط الخطاب الإسلاموي ويوقعه في حيرةٍ من أمره، أنه تارةً يعزو حلول الغلاء إلى الله، وبهذا العزو ستسقط دعوى الحاكمية التي يتغيّونها باعتبار أن تعليق أمور ومطالب الحياة على الغيب وحده، لا يتواءم مع تحمّل المسؤولية، والأخذ بالأسباب، وإن قالوا على سبيل الإدانة إن المسؤولية تتحمّلها الدولة، فمعنى ذلك التسليم بأهمية الدولة الوطنية، القادرة والمقتدرة، على حل الإشكالات دون إخلال بمقتضى الإيمان بالقدر خيره وشره.

لو سلّمنا أن الرسول عليه السلام رجُل دولة، فالصحابة بكل أدب طالبوا بالتسعير، وانتهت مطالبتهم بسماع الرد، دون إثارات ولا ثورات.

ولا نشك أن الدول توازن بين العام والخاص، وتوفّق بين حق الفرد، وحقوق المجتمع، وتراعي الفروق بين الطبقات، التي فاوت الله بين أرزاقها، ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً، ورحمةُ ربك خيرٌ مما يجمعون.