-A +A
محمد مفتي
عندما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021، بعد غزوها بحجة إسقاط الملا عمر لرفضه تسليم أسامة بن لادن عام 2001، أثار الأمر ضجة واسعة حول المغزى من عملية الغزو ذاتها، وحول تفاصيل عملية الانسحاب وتوقيتها وأسبابها ونتائجها، وقد طرحت عملية الغزو الأمريكي لأفغانستان الكثير من علامات الاستفهام حيال المغزى الحقيقي لتصرفات الإدارات الأمريكية على اختلافها، فقد قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان في أعقاب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وأطاحت بحكومة طالبان على أمل اجتثاث الإرهاب وتخليص العالم من شروره، غير أنه من الواضح أن ذلك لم يحدث.

عند انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان لم توفر للرأي العام العالمي دليلاً دامغاً على أنها تمكنت بالفعل من تفكيك المنظمات الإرهابية الأفغانية، فبعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بعد عشرين عاماً من الاحتلال وصلت طالبان لسدة الحكم مرة أخرى، وكأن عشرين عاماً كاملة لم تمر في عمر تلك الدولة التي مزقتها الحروب والصراعات والفتن، فبدخول القوات الأمريكية الأراضي الأفغانية في عام 2001 كانت بيد طالبان مقاليد الحكم، ومع رحيل آخر جندي أمريكي للأراضي الأفغانية كانت طالبان هي من تمسك مقاليد الحكم، غير أن طالبان حاولت بعد الانسحاب مباشرة تلطيف الأجواء في الداخل والخارج؛ بحجج أنها لن تكرر أخطاء الماضي، وأنها غدت أكثر خبرة في التعامل مع الشعب الأفغاني ومع المنظمات الدولية.


خلال الفترة التي تواجدت بها القوات الأمريكية بأفغانستان تقلد عدد من الرؤساء الأفغان مقاليد الحكم، غير أن البلد المفكك الذي عانى حروباً أهلية طاحنة قبل الغزو الأمريكي لم يكن قادراً على مقاومة ميليشيا طالبان الإرهابية، التي ظلت تنهش في جسده بلا هوادة، وجعلت الرؤساء الأفغان دمية ضعيفة يسهل التلاعب بها، ومن وضع سيئ لوضع أسوأ بمراحل عديدة دفعت ميليشيا طالبان القوات الأمريكية للرحيل من خلال قيامها بمناوشتهم وتنفيذ تفجيرات إرهابية ضدهم بين الحين والآخر. ومع بداية الانسحاب الأمريكي بدأت الولايات الأفغانية تسقط بيد طالبان تباعاً واحدة تلو الأخرى دون أي مقاومة تذكر.

يذكر العالم بطبيعة الحال كيف تعلق الكثير من المواطنين الأفغان بالطائرات الأمريكية وتشبثوا بأجنحتها خوفاً من المصير المظلم الذي ينتظرهم مع طالبان، فمع رحيل القوات الأمريكية أدرك المواطنون الأفغان أنهم سيعودون قروناً للوراء، وأدركوا أن البلاد ستعود للسقوط في هاوية مظلمة لا أمل في الخروج منها، وعلى الرغم من التطمينات المستمرة التي صرح بها زعماء التنظيم -وقتذاك- إلا أن الكثير لم يصدق تلك الوعود، وكانوا على ثقة من أنها مجرد خطوة تكتيكية تهدف لاحتواء الغضب الشعبي العارم، وتلطيف الأجواء المضطربة والمتوترة التي كانت تسود غالبية دول العالم تجاه منهجهم وطريقة حكمهم.

من المفارقة اللافتة أن الولايات المتحدة عقب غزوها لأفغانستان زعمت أن أحد أهدافها هو بناء جيش أفغاني كفء قادر على الدفاع عن المواطنين العزل في مواجهة ميليشيا طالبان الإرهابية، وتزويده بأحدث التقنيات العسكرية لحمايته من الأخطار الخارجية، ومنع استغلاله كموطن للتنظيمات الإرهابية على اختلافها، غير أنه يبدو أن عقدين من الزمن لم يكفيا لتسليح هذا الجيش ومساعدته على التصدي لطالبان التي تعتمد في استراتيجيتها العسكرية على أسلوب الكر والفر، وبدون جدال كانت هناك العديد من الدول المناوئة للولايات المتحدة والحريصة على أن تظل أفغانستان على صفيح ساخن، وكانت تمد الميليشيات المتصارعة بالعتاد والسلاح ليظل الاقتتال مستمراً لآخر قطرة دم تجري في عروق كل أفغاني.

لعل العوامل التي أعادت طالبان للحكم مرة أخرى لم يُكشف عنها الستار تماماً بعد، غير أن الواضح هو أن زعماء ذلك التنظيم لم يجدوا موضوعاً يثبِّتون من خلاله دعائم حكمهم في الشهور الأولى بعد رحيل القوات الأمريكية سوى حقوق المرأة، فادعوا أنهم سوف يمنحون المرأة كافة حقوقها في العمل والتعليم والانتخابات وغيرها، وبصفة شخصية لم أصدق تلك الوعود على الإطلاق، وكنت على يقين من أن تلك التصريحات ليست أكثر من هدنة لفرض المزيد من السيطرة التدريجية على مقاليد الأمور، وربما كان لها الكثير من الأسباب الأخرى مثل تحفيز القوات الدولية الأخرى التي كانت متواجدة في ذلك الوقت على الرحيل.

لا شك أن تصريحات طالبان لم تكن أكثر من خدعة حرب، فطالبان البراجماتية تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، والكذب مباح لتحقيق الأهداف التي تعتقد هي أنها نبيلة، وقد اتضح كل ذلك عقب إصدار طالبان قرارها بتعليق تعليم الفتيات لأجل غير مسمى بحجة عدم ارتدائهن الحجاب المناسب، وفي الحقيقة هذا التصريح لا يمس نساء أفغانستان فحسب، بل هو تصريح موجه للمجتمع الدولي ككل، بأن أفغانستان عادت للمربع الأول، وهو تمهيد للعديد من القرارات القمعية التالية التي تتعلق بوضع النساء في ذلك المجتمع، ويترافق مع العديد من القرارات التي قامت بتحجيم عدد وطبيعة الوظائف النسائية هناك في المرافق العامة والخاصة.

من المؤكد أن السلوكيات المشينة لحكومة طالبان تثير سخط وحزن الجميع، فتعاملهم العنيف مع النساء تجسد في الكثير من المواقف، لعل أسوأها هو قيام أحد أعضاء التنظيم بركل ودهس واحدة من المشاركات في مسيرة رافضة لقرارات طالبان الأخيرة الظالمة، وإن كان هذا يحدث في وضح النهار فلنا أن نتخيل ماذا يحدث داخل سجون ومعتقلات طالبان المظلمة، ولعل السلوك العنيف الموجه ضد النساء هو العامل المشترك بين جميع النظم الغاشمة، مثل إيران وداعش وغيرهما، وفي واقع الأمر لو لم يتم التصدي لجبروت طالبان المتصاعد فإن أفغانستان لن تظل جرحاً دامياً في خاصرة الأمة الإسلامية فحسب، بل ستصبح منبعاً للإرهاب والتطرف تنبثق منه كافة المنظمات والكيانات الإرهابية التي ستقض مضاجع العالم.