من أبرز مؤشرات الانفصال عن أرض الواقع لدى من يتناولون الشأن العام أنهم ما زالوا في تحليلهم لأحداث العالم يتحدثون عن صراع للأيدولوجيات/ العقائد الدينية والسياسية لأنهم لم يتجاوزوا القرن الماضي، والحقيقة أنه منذ بداية القرن الحالي ترسخ بشكل كامل زوال الشيوعية حتى من البلدان التي لا يزال لها نظرياً نظام شيوعي كالصين، فهي اعتنقت النموذج الرسمالي بالكامل، كما أنه نتيجة لتولي الجماعات والحركات الإسلامية للسلطة بشكل كلي أو جزئي في بلدان عدة مثل أفغانستان ومنطقة القبائل في باكستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا ومناطق شاسعة في أفريقيا، وأيضاً مناطق ببعض بلدان شرق آسيا كالفلبين، أنهت الجماعات والحركات الإسلامية بنفسها أي أمكانية لأن يؤيد ويتقبل المسلمون، ناهيك عن غيرهم أن تحكمهم بسبب شدة سوء نموذجها الذي تجاوز سوء الأنظمة المخلوعة في كونها فوق الأنماط السلبية للأنظمة السابقة فهي أضافت إليها قمع الحريات والحقوق الأساسية التي كانت موجودة بعهدها كحق تعليم الإناث وعملهن وخروجهن من بيوتهن لقضاء حوائجهن، ومنعت الإنترنت والتلفاز وحرّمت حتى اللعب على الأطفال وجعلتهم انتحاريين وذبّاحين للبشر يخاف حتى أهلهم منهم وقد قام بعضهم بقتل أهاليهم لإظهار الولاء للجماعة، وبعضها، كجماعة بوكوحرام الأفريقية، منعت حتى تعليم المواد العلمية كالطب والهندسة والفيزياء وفجرت الجامعات والمدارس بمن فيها؛ لأنها تعتبر تدريس أي شيء غير القرآن هو حرام، وأعادت أسوأ أنماط البشرية من عصور الظلمة المتمثلة في اختطاف الإناث حتى طفلات الابتدائية واستعبادهن جنسياً وحصلت من داعش والجماعات الإسلامية الإرهابية في أفريقيا، وبهذا حتى المحللون الغربيون يصرحون أن ما كانوا يعتبرونه خطراً عالمياً للأيدلوجيا الإسلامية قد أنهته الجماعات والحركات الإسلامية بنفسها؛ بسبب شدة سوء النموذج الذي قدمته والذي لم يرحب به ولا مجتمع مسلم واحد، ولذا لم ولن تستقر لهم سلطة أبداً، ولذا الصراع الحالي الحقيقي هو بين منظومتين فقط؛ منظومة تمثل «سلطة الحكومات»، ومنظومة تمثل «سلطة الشركات» والنظرية الاقتصادية التي تم فرضها على العالم منذ تسعينات القرن الماضي عبر المؤسسات الاقتصادية والنقدية الدولية جعلت التيار المهيمن تيار «سلطة الشركات» وهذا تسبب بموجات الثورات الجماعية المتولية التي حصلت بأمريكا اللاتينية وشرق آسيا وأوربا والعالم العربي وحركات الاحتجاج الواسعة بأمريكا بعد الانهيار الاقتصادي الكبير 2008م، والتي سببها يكمن في حقيقة أن «سلطة الحكومات» هي أشبه بدور الوالدين مع الأبناء حيث يقوم دورهما على توفير الحماية والرعاية للأبناء، بينما نظام «سلطة الشركات» يعني أن يتولى صاحب السوبرماركت أمر الابناء، وبالطبع دوره لن يكون توفير الحماية والرعاية، إنما فقط توفير السلع ليشتريها الأبناء وإن لم يكن لديهم ثمنها فهو لا يبالي أن يراهم يموتون من الجوع أمام بواباته، وهذا ليس مثالاً نظرياً، إنما واقع حصل حتى مع الماء والدواء عندما تخلت الحكومات عن مسؤولياتها لصالح الشركات وصارت مجرد حارس أمن على بوابات الشركات العالمية، ولذا إلغاء مسؤوليات الدولة تجاه الشعب واستبدالها بشكل كامل بسلطة الشركات يؤدي لتوحش نظام الحياة والثقافة البشرية وجعلها داروينية سيكوباتية؛ لأنها مسيرة بجشع الأطماع الأنانية لأفراد غير ملزمين بالتصرف بنمط سلطة الحكومات في تقديم الحماية والرعاية للشعب، بينما حتى الحكومات غير الديمقراطية تقوم بهذا الدور الإيجابي، ولا يستفيد من نظام سلطة الشركات إلا أثرى الأثرياء الذين غالباً لا يكونون من أهل البلد الذي يشقون أهله بسياساتهم الاقتصادية غير المراعية للمصلحة العامة، والشركات وإن كان أصلها من دول ديمقراطية فهي لا تتصرف بشيء من فضائل الديمقراطية؛ لأن مسؤوليتها الوحيدة هي فقط تحقيق أقصى الأرباح للمساهمين.