-A +A
سعد الراشد
في يناير من عام 2004، أُطلق مشروع بحثي مموّل من وزارة التعليم الأمريكية؛ بهدف مساعدة أساتذة المتاحف على فهم كيفية تأثير مشاهدة الفنون وابتكارها على مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب. وركزت الدراسة بالتحديد على تأثير برنامج غوغنهايم للتعلّم من خلال الفن، والذي وضع الفنانين الأساتذة على مدى أكثر من نصف قرن في الصفوف الدراسية، مما أدى إلى إقامة معرض سنوي للأعمال الفنية الطلابية في غوغنهايم تحت مسمى «عام مع الأطفال». وقارن الباحثون مهارات الطلاب في مدارس مدينة نيويورك التي شاركت في البرنامج مع مجموعات طلابية مماثلة في المدارس التي لم تنضم إليه.

وأظهرت النتائج أن طلاب برنامج التعلّم من خلال الفن تفوّقوا على غيرهم في تطبيق مهارات التفكير النقدي كالقدرة على الافتراض، وطرح عدد من التفسيرات، وصياغة الروابط، والتركيز لفترات طويلة، ومشاركة مشاهداتهم بصورة شاملة ودقيقة في النقاشات الفنية. حتى إنهم وجدوا أن الكثير من هذه القدرات كانت أفضل من حيث فهم القراءة. باختصار، اكتسبت هذه المهارات أهمية كبرى في المناهج الدراسية، مما عزّز الفكرة القائلة إنّ تشجيع الفنون يمكن أن يحسّن نتائج الطلاب في المجالات الرئيسية مثل القدرة على القراءة والكتابة.


ولكن قبل مشروع غونهايم بعقود تنبهت حكومة المملكة العربية السعودية إلى هذا التأثير المهم للفنون في تعزيز القدرات الإدراكية للطلاب فجعلت «حصة الفنون» حصة أساسية في المنهج الدراسي منذ الصفوف الأولى، واستقدمت لتدريس هذا المنهج مدرسين متخصصين من عدة بلدان عربية، ولم تكتف بذلك بل ابتعثت عدداً من المتخرجين، ومن ذوي الاهتمام والموهبة لدراسة الفنون إلى عدة دول منها مصر ولبنان وإيطاليا.

ثم وسعت من هذا الاهتمام لتكون مادة الفنون ودراستها أكاديمياً جزءاً من التخصصات التي تقدمها بعض الجامعات السعودية، بغرض إعداد معلمين وباحثين متميزين لسد العجز المتزايد في هذا المجال. ودخلت دراسة الفنون الإسلامية وتاريخها في مناهج الآثار والحضارة الإسلامية. وفي هذا تأكيد أن دراسة الفن الإسلامي هو جزء لا يتجزأ من مناهج هذا التخصص، خاصة أن المملكة هي موطن الحرمين الشريفين وأهم الآثار الإسلامية موجودة بها أو تتقاطع معها بشكل أو بآخر.

ودراسة الفن الإسلامي هو تعزيز لقراءة التاريخ الإسلامي الذي يمكن من خلاله استجلاء مراحل التحولات الثقافية – التاريخية لمسيرة الفكر الإسلامي، ووضع النقاط على الحروف على المناطق التي لم يتم استجلاء الغموض حول بعض تفاصيلها.

وتكريساً لهذا التوجه اعتمد مجلس شؤون الجامعات السعودية، في عام1443هـ (2022 )، إنشاء كلية الفنون بجامعة الملك سعود في الرياض، وتضمن قرار مجلس الجامعات نقل قسم التربية الفنية إلى كلية الفنون، وتعديل مسماه ليكون «قسم التصميم» ويعنى بتدريس علوم التصميم الجرافيكي الحركي، والمنسوجات، والأزياء، وتصميم المجوهرات، كما تشتمل الكلية على قسمي «الفنون الأدائية»، لتدريس علوم المسرح والسينما والموسيقى، و«الفنون البصرية»، لعلوم الطباعة والرسم والنحت والخط العربي.

وعلق الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، وزير الثقافة على هذا القرار قائلا: إن «التعليم أساس البناء وتطوير القدرات الثقافية».

وهناك تنسيق بين القطاعات في وزارة الثقافة والهيئات والمتاحف لإدخال مواد الآثار والتراث الحضاري المكتشف في المملكة في المناهج.

ولم يتوقف دعم حكومة المملكة للفنون عند المجال الأكاديمي وتعزيز حضورها في المناهج التعليمية، بل تقدمت خطوة حين قررت إقامة بينالي الدرعية في دورته الأولى في ديسمبر 2022، والذي استضاف أكثر من 60 فنانا محلياً وعربياً وعالمياً، عززوا على أرض الواقع الحوار الفني، والثقافي، وأواصر الترابط بين المجتمعات الثقافية والإبداعية في المملكة وعالم الفن الدولي.

وعودة إلى أهمية تدريس ودراسة الفنون سنجد بأن التراجع الملحوظ في الاهتمام بها في المناهج التعليمية في كثير من بلاد العالم، وأدى ذلك إلى تزايد السخط على المستوى العالمي. وإزاء ذلك قررت المملكة المتحدة -العام الماضي- وقف تمويل مواد الفنون والثقافة في صفوف التعليم العالي في الجامعات في كافة أنحاء إنجلترا. وفي العام ذاته، خفّض عمدة مدينة نيويورك بيل دي بلاسيو تمويل تعليم الفنون في المدارس العامة المتوسطة والثانوية في المدينة بنسبة 70%، مما أدّى إلى تراجع الميزانية من 21.5 مليون دولار إلى 6.5 مليون فقط. أما في الشرق الأوسط، فما زالت دول عدة تفتقر إلى إطار شامل لتعليم الفنون لتغطية القطاع بكامله، وفي أفريقيا، تفتقر معظم الدول إلى أساتذة فنون مؤهّلين ومرافق تعليمية مناسبة في المدارس، حيث تعاني المدارس والمؤسسات التعليمية الأفريقية من نقص في المواد والاستوديوهات الفنية المخصصة، مما يؤدي إلى تقييد القدرات الإبداعية لشعب بكامله.

ويكتسب التعليم الفني في عصر كوفيد-19 أهمية أكبر من أيّ وقت مضى مع بروز جيل شاب متعطش للتعبير عن الذات. فقد تحوّلت عملية الابتكار في السنوات القليلة الماضية إلى وسيلة لمشاركة أعمق مشاعرنا وإبراز هوياتنا الجديدة التي اكتسبناها بسبب عزلتنا. وأرى شخصياً أنه إذا كان بإمكان دروس الفن المعاصر التركيز على الرفاهية الاجتماعية والعاطفية للطفل من خلال التعبير، فنحن نساهم في نمو هذا الطفل من الناحية الأهم.

ومن المعروف أنّ الفنّ يساعد الطلاب على استكشاف هوياتهم الثقافية والشخصية وفهم العالم المحيط بهم. وهذا من الأسباب التي دفعتنا في بينالي الفنون الإسلامية إلى اختيار التعاون مع فنانين من أكثر من عشرين دولة، بما فيها الجزائر والبحرين والمملكة المتحدة. فنحن نرى أن تنوع التعبير أساسي للتواصل بين الثقافات، وغالباً ما يكمن سر العيش وسط أشخاص نظن أنه لا يجمعنا شيء بهم في تشارُك جوهرنا معهم بكلّ بساطة.

كذلك، خصصنا مكاناً للفنانين السعوديين الذين سيتسنّى لهم، ولأول مرة، عرض أعمالهم عبر منصّة دولية عالمية المستوى على أرض وطنهم، وهذه تجربة فريدة تؤكد على طموحات المملكة العربية السعودية بتحقيق التقدم مع الحفاظ في آنٍ على تراثها وأصالتها.

ووجد تحليل لمؤسسة الوقف الوطني للفنون في الولايات المتحدة، ارتكز على بيانات أربع دراسات، أنّ الطلاب من أصحاب المستويات العالية من المشاركة الفنية حقّقوا نتائج أكثر إيجابية في عدد من المجالات، بدءاً من معدلات التخرّج من المدارس الثانوية وصولاً إلى المشاركة في الحياة المدنية.

وبيّنت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يدرسون الفنون يرجّح نيلهم تقديراً على إنجازاتهم الأكاديمية أكثر من سواهم بأربعة أضعاف، حيث يمكن لتعليم الفنون أن يعزز مهارات الذاكرة والرياضيات ويؤدي إلى نتائج اجتماعية وعاطفية أفضل.

وتكتسب البيانات المماثلة أهمية كبيرة بالنسبة إلى الدول الطموحة مثل المملكة العربية السعودية والتي تسعى إلى الاستفادة من غنى تراثها وتنوّعه. وإدراكاً منها لأهمية القطاع الإبداعي، أدرجته حكومة المملكة ضمن الركائز الأساسية لخطة رؤية 2030، بهدف زيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 3%، ليحقق إيرادات بقيمة 20 مليار دولار ويوفر أكثر من مئة ألف فرصة عمل بحلول عام 2030.

وسيدير بينالي الفنون الإسلامية لهذه الأسباب وغيرها برامج فنية متزامنة تشمل مجموعة واسعة من الأنشطة والرحلات وورش العمل وجلسات لقاء الفنانين وحلقات النقاش والمحادثات والندوات المصمّمة خصيصاً لجذب الجماهير من خلفيات متعدّدة، بهدف إلقاء الضوء على مدى أهمية الفنون بالنسبة إلى المنطقة وعالمنا.

وستدعم برامجنا العامة، التي تستهدف الأطفال والشباب والفنانين والمهنيين، المنظومة المحلية من خلال التركيز على مواضيع مختلفة تجمع بين الماضي والمستقبل، بما في ذلك كيفية تأثير التراث الثقافي وإرث العالم الإسلامي على المجتمع المعاصر، والثقافة الكامنة وراء الفن، وكيف عززت المشاركة والإلهام والتبادل بين العالم الإسلامي وثقافات العالم الأخرى الإبداع والنموّ، والفنون الإسلامية من الداخل، وكيف تعكس فنون العالم الإسلامي قيم الإسلام، والفنون الإسلامية في الممارسات المهنية، وماذا تعني رعاية فنون العالم الإسلامي وجمعها وحفظها وتعليمها اليوم، وبرنامج المدارس وأداؤها، وهو برنامج غني وممتع سيثري النسيج الاجتماعي والثقافي للجيل القادم من السعوديين.