-A +A
بشرى فيصل السباعي
من يطالع المؤشرات والتقارير الاقتصادية العالمية، خصوصاً الصادرة عن المؤسسات النقدية والاقتصادية الدولية، يتخيل أن الناس يعيشون فترات رخاء اقتصادي غير مسبوق؛ لأنها تهنئ الحكومات المتعثرة اقتصادياً على أدائها الاقتصادي المتعثر وتشجعها على المزيد منه، بينما على أرض الواقع وحسب مؤشرات جودة الحياة، فالناس في كل العالم يعانون انخفاضاً غير مسبوق بجودة حياتهم وما يتلقونه من خدمات وفرص وحصة بدورة الاقتصاد، وهذا الواقع هو سبب الثورات التي شملت كل قارات العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لكن ما سبب هذه المفارقة بين المؤشرات الاقتصادية الدولية وبين الواقع على الأرض؟ سببه هو أن الذكاء الاصطناعي الذي كان يتخيل الناس أنه سيسيطر على العالم بصورة رجال آليين سيتمردون ويقاتلون البشر بالشوارع بات هو الحاكم الفعلي والمقرر الحقيقي للواقع الاقتصادي العالمي؛ فالعمليات والتعاملات والقرارات والسياسات الاقتصادية انفصلت بشكل متسارع ومتصاعد عن أرض الواقع خلال العقود الأخيرة، وصارت مجرد نماذج ومعادلات رياضية ببرامج حاسوبية؛ لذا هناك ظاهرة بالمؤسسات والأسواق المالية الدولية، وهي كثافة تعيين متخصصين بفرع متخصص مستجد من الرياضيات القائم على دور الذكاء الاصطناعي في التحكم بالعمليات الاقتصادية بدل تعيين متخصصين بالاقتصاد والمال والأعمال، وهذا كان سبب الانهيار الاقتصادي الكبير بأمريكا 2008م؛ الذي أدى لشبه ثورة شعبية ضد هذا الواقع الاقتصادي الرياضي المنفصل عن أرض الواقع؛ الذي كان يمنح مؤشرات رياضية حاسوبية زائفة عن الازدهار الاقتصادي، بينما على أرض الواقع الصناعة والاقتصاد الأمريكي ضمرا بالكامل؛ لذا صار غالب الازدهار الاقتصادي يسمى بالمصطلحات الاقتصادية «فقاعة»؛ لأنه أشبه بوهم يوجد فقط بالعالم الافتراضي للكمبيوترات والإنترنت والبرامج الحاسوبية التي تدير عمليات البنوك والأسواق المالية، لكن رغم هذه النتائج الكارثية لا يزال هذا النموذج الاقتصادي يتم فرضه على دول العالم عبر المؤسسات النقدية الدولية لذات السبب الذي لا يزال هناك من يدعو لفرض النموذج الديني الأصولي المتطرف الذين ثبت أن تطبيقه على أرض الواقع أدى لنتائج كارثية أشقت الشعوب ودمرت بلادهم؛ لذا من كان قائماً على فرض هذا النموذج على العالم تحول ليصبح من خصومه كالاقتصادي الأمريكي البروفيسور Joseph Stiglitz الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، وكان كبير اقتصاديي البنك الدولي ونائباً لرئيسه، ورئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس كلينتون، واعترف بمسؤولية هذا النموذج الاقتصادي عن الثورات ودمار اقتصاديات جميع الدول التي طبقته وانهيار جودة حياة الإنسان فيها، وعزا سبب الإصرار على متابعة فرضه بما أسماه «Market fundamentalism-العقيدة الأصولية للأسواق المالية» أي أنه أشبه بإيمان غيبي/ ‏‏ديني لدى القائمين على فرض نموذج «الفقاعة» الاقتصادي الأصولي بأنه يمثل الحل الطوباوي لكل المشاكل، بينما ثبت أنه خلق مشاكل أفدح، وساعدهم كون المتحكم بمؤشرات الاقتصاد العالمي وقراراته وأسواقه المالية وعمليات بنوكه ذكاءً اصطناعياً حاسوبياً رياضياً بلا وعي ذاتي ولا تمييز لآثار قراراته على أرض الواقع ونوعية حياة البشر الذين وضعوا تحت عجلات قراراته وهو يدوسهم بطريقه ولا يبالي؛ لأنه لم يتم تضمينه برمجة لتقييم مخاطره وآثاره الواقعية على حياة الناس والأنظمة الاجتماعية والصحية والتعليمية والاستقرار السياسي والأمني، وبالتالي الوقاية من الإرهاب والجريمة والثورات وحروبها الأهلية، فالاقتصاد بات مجرد نماذج رياضية وأرقام بحاسبات تجريدية على الشاشات تنتجها برامج حاسوبية رياضية بشكل تلقائي دون الرجوع للتمحيص البشري ولا الاعتبار لآثارها الواقعية على الأرض، وبهذا تحققت النبوءة العلمية الكابوس بوصول العالم لحال يسمى «Singularity-الفرادة» حيث وصلت فيه العمليات الاقتصادية لدرجة من التعقيد الرياضي الحاسوبي ما عاد يمكن للبشر مجاراتها والتداخل بتفاصيلها لتصحيحها، وبالتالي تحتم الاكتفاء بالاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي للقيام بذلك.