-A +A
نجيب يماني
في كل يوم يمر علينا تتكشف المأساة الكبيرة التي خلّفها الزلزال المدمر، الذي ضرب سوريا وتركيا، ولا زالت الهزات الارتدادية أو توابع الزلزال تضرب مدناً وقرى أخرى قريبة من مركزه.. مأساة تجلّت في مراياها العديد من المواقف المتباينة والمتناقضة، أوقفتنا بدورها على حالات من مشاعر شتى، أحاسيس مضطربة.

فما بين حزن وأسى على فقدان تلك الأرواح العزيزة، التي لقيت حتفها تحت الأنقاض، وأخرى لا يعرف مصيرها بعد،


كانت عمليات البحث تجري في الأنقاض، وما بين فرح واستبشار بخروج أخرى من جوف الركام، تتنفّس نعيم النجاة من هذا الجحيم، وتتلفت في أسى لعلها تجد ناجين لها من أقربائها، لتنكشّف المأساة عن أطفال تيتموا، وزوجات ترملن، وآباء فقدوا فلذات أكبادهم، فتمنوا الموت على الحياة في مظهر من مظاهر الحزن الأليم..

وفي جوف هذه المأساة الإنسانية تبدّت عظمة بلادنا، وإنسانية قيادتها الرشيدة، حيث هبّت سريعًا للنجدة، فكانت في طليعة المغيثين، مسيّرةً جسرًا من المواد الإغاثية، مسخرة له أكبر الطائرت، وباعثة بطواقم من الهلال الأحمر والدفاع المدني، لتساعد في عمليّات الإنقاذ والانتشال والمواساة، التي أظهرت عزمًا أثمر من قصص رائعة لإنسانية أبناء وبنات المملكة، التي ما ادخرت جهدًا، ولا نقصت مثقالاً يمكن أن يسهم في تخفيف وقع هذه المصيبة العظيمة، بلا أي تقدير أو حساب سوى النجدة والاستجابة لنداء الاستغاثة، كما هو ديدنها في كلّ عمل خيري، تنهض إليه مسقطةً أيّ حسابات سواء أكانت سياسية أو عقدية أو إثنية، وإنما تعلي فقط من البعد الإنساني، ضاربة بذلك المثل الأنقى، وحائزة به على موفور الإشادة، وصادق الثناء، وما ذاك غايتها؛ كونها لا ترجى ثواب صنيعها وجزاء عملها إلا من الله عزّ وجل.

مواقف ملأت نفوسنا بالفخر والاعتزاز والإكبار لقيادتنا الحكيمة، وأبنائها البررة الكرام، وأكد مكانة المملكة ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً، وأنها الثابت الذي يلجأ إليه الآخرون، والقبلة التي ينشدها الحائرون..

ولئن كنا قد امتلأنا بالفخر والإعزاز لصنيع دولتنا وقيادتها، فقد غمّ علينا البعض من المتنطعين، بأحاديث مرجفة، وتفسيرات خرجت إما من معطن نظرية المؤامرة أو من فساد العقل وسقط التفكير القيم، فذهب بعضهم في سطحية وسذاجة إلى افتراض أنّ الزلزال ناجم عن تدبير أمريكي صهيوني استهدف هذين البلدين محدثًا هذا الدمار الماحق، وأنهم بصدد التوسع فيه لإحداث الفوضى في المنطقة كلها.. فيما ذهب آخرون إلى تطويع آيات الإنذار الكوني، والأحاديث الواصفة لنهاية الدنيا، لإثبات أن الزلزال إنما وقع على من وقع جزاءً وفاقًا لما يرتكبون من المعاصي والآثام، وما يقترفون من الذّنوب والخطايا، واطئين بقولهم السقيم الفج على جراح المصابين، وزائدين الأسى على من فقدوا أعزاءهم، متجردين من كل إنسانية تستوجب عليهم الصمت، فقط الصمت، إن لم يحسنوا كريم المواساة، أو يستنهضوا أنفسهم للنجدة والغوث النبيل.. فما أبأس ما نطقوا به، وما أوهن ما طرحوا.. هذه أنفس نعرفها جيدًا، وندرك طوايا قلوبها، ومخرجات ألسنتها، وظلمة رؤيتها، فكانت بحقّ مأساة فوق المأساة، وبليّة زادت هذا المصاب الجلل.

إنّ مأساة الزلزال في سوريا وتركيا توقفنا كذلك أمام حقيقة مهمة، تفضي بنا إلى استشعار الحيطة والحذر، وذلك من مظهر التفاوت الذي شاهدناه في نتائج الزلزال، فثمة أبنية سوّت بالأرض وأصبحت ترابًا، وأخرى مالت وأوشكت على السّقوط، وثالثة تصدّعت وتشقّقت، ورابعة وقفت صامدة في وجه الرجّة والزلزلة.. فهذا التفاوت يكشف بلا شك عن اختلال واضح في البناء والتشييد، ويظهر أنّه ثمّ تلاعب وعدم التزام بالمعايير المطلوبة لتشييد مبانٍ توفّر الأمن والأمان لقاطنيها، ومصداق ذلك أنّ السلطات التركية على وجه التحديد قد أوقفت حتى الآن أكثر من مئتين وخمسين مالكًا أو مقاولاً من أصحاب البنايات التي انهارت بالكامل، وبعضهم كان على وشك الهروب عبر المطارات، بما يشي باستشعاره لخطير الجرم الذي ارتكبه، والجريرة العظيمة التي اقترفها، وعلى أيّ مآل ستنتهي إليه التحقيقات، فالحقيقة التي لا مراء فيها – مع التسليم بالقضاء والقدر – أنّ هناك خللاً ما ارتكب، أفضى إلى هذا التفاوت في حجم الدّمار، بما يعني بداهة أنّ المسؤولية تقع على من قام به، ويستوجب العقاب العادل في حقّه..

ومن المهم أن يكون ما حدث جرس إنذار لنا جميعًا لأخذ الحيطة والحذر، فبقدر ما نسأل الله أن يجنبا الشرور والكوارث، بقدر ما يلزمنا أن نقرع أجراس التنبيه المبكّر تلافيًا لمثل هذه المآسي الإنسانية الفاجعة، خاصة أنّ المنطقة، وحسب تقارير الجيولوجيين، تشهد نشاطًا وحركة في قشرة الأرض وباطنها، واهتزازت سجلت في عمق البحر الأحمر مؤخرًا، فرغم التطمينات التي بثتها الجهات ذات الاختصاص، إلا أنّه من المهم أن يصحب ذلك مراجعة كاملة لكافة البنايات في كافة مدن وقرى وهجر المملكة، والتأكّد من أنّ كافة الإنشاءات؛ الخاصة والعامة، مطابقة لاشتراطات الأمن والسلامة المطلوبة لضمان حياة الناس، فهذا الأمر يجب أن يتمّ على وجه السرعة، تطمينًا للجميع، واستشعارًا مبكرًا لأي خطر متوقع الحدوث، نسأل الله صادق المواساة لأهلنا في تركيا والشام، وأن يعينهم على هذا المصاب، وأن يعجّل بالفرج والغوث العميم لهم.