-A +A
نوفل ضو
مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه النظام العربي القديم الذي كان يتكل عليه، سعت الأيديولوجيات الدينية والعرقية لملء فراغ الأيديولوجيات القومية بفروعها، فنجحت بعض الدول بغض نظر أو تواطؤ أو عجز أمريكي - أوروبي، في التمدد والتغلغل عبر أذرعها في بعض الدول العربية من خلال التحريض المذهبي أو تنظيم الإخوان المسلمين.

وعت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية خطورة غياب «المشروع العربي» عن الشرق الأوسط الذي بات فريسة لأطماع سياسية، فأطلق الأمير محمد بن سلمان في العام 2016 «رؤية 2030» التي باتت البوصلة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية للإستراتيجيات والقرارات التي تعتمدها المملكة على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية.


ومنذ ذلك الوقت، دخلت المملكة العربية السعودية عصرا جديدا باتت فيه أهداف «رؤية 2030» هي القاعدة الناظمة لعلاقات المملكة مع محيطها والعالم، ولم يعد من الممكن فهم «المملكة الجديدة» والتعاطي معها بفاعلية ونجاح إلا في ضوء مسار رؤيتها. ويخطئ من يعتبر «رؤية 2030» مجرد مجموعة من المشاريع الاقتصادية والاستثمارية المحلية الهادفة إلى إطلاق ورشة تجديدية وتنموية. ذلك أن الرؤية هي نموذج متكامل تضعه المملكة العربية السعودية كخيار إستراتيجي في تصرف كل الدول العربية للانتقال الجماعي من «عصر الأيديولوجيا» الذي طبع القرن الماضي إلى «عصر التكنولوجيا» الذي يطبع القرن الحالي. وقد عبر الأمير محمد بن سلمان عن هذه المقاربة بقوله: «أطمح لرؤية الشرق الأوسط في السنوات المقبلة أوروبا جديدة»، فشرّع الأبواب أمام كل الدول العربية، لاسيما المأزومة منها، للخروج من أزماتها ومشاكلها السياسية والاقتصادية والأمنية من خلال الشراكة مع دول مجلس التعاون الخليجي في بناء «نظام عربي» جديد يواكب العولمة ويكون شريكا كاملا وفاعلا في بناء «نظام عالمي» جديد يحفظ للعرب حقوقهم ومصالحهم ودورهم.

وترجمت المملكة العربية السعودية رؤيتها في مجال السياسة الخارجية التي قامت على أسس جديدة ومتوازنة ومتكافئة تحفظ المصالح العربية بعيدا عن الأحلاف والمحاور الدولية المتصارعة التي تموضع فيها العرب في القرن الماضي، والتي تسببت بحروب ونكبات وصراعات وانقلابات ومؤامرات أفقرت الشعوب العربية وأفقدت مجتمعاتها الاستقرار والتنمية لعقود طويلة. وهكذا حرصت المملكة العربية السعودية على تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية من دون خضوع، وعلى صداقتها مع روسيا من دون تبعية، وعلى شراكتها مع الصين من دون ارتهان، وعلى تفاعلها الحضاري مع أوروبا من دون تنازلات عن القيم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية... ومدت المملكة يدها للتعاون إلى الهند واليابان والبرازيل وكوريا الجنوبية وغيرها من دول العالم.

وترجمت هذه السياسة بمجموعة من القمم الدولية – الخليجية – العربية على أرض المملكة وضعت خلالها الأسس الجديدة للعلاقات العربية الدولية.

وعلى الصعيد الإقليمي، لم يقتصر مد اليد السعودية للتعاون مع الدول العربية وفي مقدمها: مصر وتونس والعراق والأردن والسودان وسوريا ولبنان وغيرها من الدول، بل شمل كلا من تركيا وإيران.

فمنذ إعلان رؤية 2030 حرص الأمير محمد بن سلمان على التأكيد بأن المملكة مستعدة للتعاون السياسي والاقتصادي مع إيران، متى قرر نظام طهران التخلي عن «تصدير الثورة».

كما حرص على توجيه الرسائل المتلاحقة إلى تركيا بالاستعداد للتعاون السياسي والاقتصادي والإستراتيجي متى تخلت عن مشاريعها التوسعية في استعادة نفوذ «الإمبراطورية العثمانية» ودعم «الإخوان المسلمين» في الدول العربية.

وبمجرد تخلي تركيا عن استهداف المملكة العربية السعودية سياسيا وأمنيا وإعلاميا قبل أشهر، ردت المملكة بمد اليد فكان تبادل الزيارات الرسمية، وفتحت صفحة جديدة من العلاقات السياسية والاقتصادية والاستثمارية مع تركيا، فاستعيد التبادل التجاري بين البلدين .

والمهم أن ما قامت به المملكة مع تركيا لم يكن من زاوية حفظ مصالحها الخاصة فقط، وإنما شمل كذلك حفظ مصالح مصر وليبيا من خلال الحد من التدخل التركي المباشر وغير المباشر في شؤونهما الداخلية.

وما ينطبق على ترميم العلاقات السعودية التركية، ينطبق على الاتفاق السعودي الإيراني، برعاية صينية، على استئناف قريب للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

فالمملكة العربية السعودية التي عملت جاهدة، على مدى سنوات، مع دول مجلس التعاون الخليجي لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا بضرورة إشراك الدول العربية في المفاوضات النووية مع إيران لضمان المصالح العربية في أي اتفاق إيراني دولي، ووجهت برفض أمريكي – فرنسي لاقتراحها، ومضت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا خصوصا في تفردهما في محاولات صياغة الصفقات وحياكة التسويات في شأن البرنامج النووي الإيراني الذي يهدد المجتمع الدولي. فكان من الطبيعي أن تستخدم المملكة علاقاتها الدولية مع الصين في محاولة، ليس لحماية المصالح السعودية حصرا كما يسوّق البعض عن سوء نية أو عن جهل بالواقع، وإنما لضمان مصالح كل الدول العربية التي تعاني من التدخلات والتهديدات .

وعلى غرار اتفاقها مع تركيا الذي تضمن تعهدا تركيا بعدم استخدام أذرع الإخوان المسلمين لتقويض استقرار الدول العربية، حرصت المملكة العربية السعودية على تضمين اتفاقها مع إيران برعاية صينية «التأكيد على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية»، وهو ما يعتبر حماية لسيادة كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن .

إن قراءة أي موقف أو قرار أو خطوة سعودية بمعزل عن أهداف وتطلعات «رؤية 2030» سيؤدي بأصحابه إلى أخطاء في التقدير والاستنتاجات. فالمملكة تتطلع إلى «الشرق الأوسط أوروبا جديدة»، وكل خياراتها وقراراتها تصب في هذا الاتجاه. وبالتالي فإن الحديث عن صفقات سعودية مع إيران أو غيرها على حساب الدول العربية وسيادتها واستقلالها وعلى حساب «المشروع العربي» و«النظام العربي الجديد» الذي يعتبر إستراتيجية سعودية للعقود المقبلة، يعكس عدم فهم لـ«المملكة الجديدة» سيرتد على أصحابه بمزيد من الخسائر. والمملكة التي تتحمل مسؤولياتها في خلق الفرص الدبلوماسية والاقتصادية لمنطقة أكثر استقرارا ولعالم أكثر توازنا، لن تكون في وارد إضعاف الموقف العربي ، ولكنها في الوقت ذاته ليست في وارد الحلول محل القيادات المحلية في أي دولة عربية، لا سيما لبنان وسوريا والعراق واليمن في حسم خياراتها، وفي القيام بما عليها القيام به من خطوات ومبادرات وإصلاحات لملاقاتها في منتصف الطريق.