-A +A
عبده خال
العظماء وحدهم هم القادرون على فعل أي فعل من غير تحسّس لما يحدث فعلهم من ردود فعل للناس، والعظمة تنشأ من تراكم الأعمال الجادة وتميزها، وحين قال المتنبي:

أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها


وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ.

والاختصام حول أفعال العظماء حادث حادث، بينما الفاعل ينام ملء جفونه غير مكترث لما أحدثه من تبيان الآراء حوله.

وهذا ما يحدث للناس حيال أي فعل أو قول يتفوه به فنان العرب محمد عبده.

وتجاسر البعض بمطالبته بعدم إجراء لقاءات والاكتفاء بالغناء، وهذا التجاسر تعدّ صارخ على حرية محمد كإنسان وكفنان له الحق الكامل في القول أو الفعل، والمطالبون بصمته يرغبون في إلغاء وجود محمد، ويرغبون أيضاً إلى تحويله إلى آلة تسجيل تردد الأغاني التي يحبونها، نعم هناك محبون له لا يريدون تكالب الأعداء عليه، ونهشه نهشاً جارحاً.

وسواء كانوا أعداء أو محبين ليس لهم الحق المطالبة بتحديد ما يقوله أو يفعله.

فمن الضرورة بمكان أن يكون للمبدع خياراته في تقديم نفسه كما يريد لا كما يريد الجمهور..

ومن تابع حياة وسيرة محمد عادة يعرف التركيبة النفسية لهذا الفنان، فالبصمة الذاتية لأي إنسان تكون حاضرة في جميع المفاصل الزمنية لحياته.

وقد تطرقت لهذه النفسية في قرارة فنان العرب حينما قدمت كتاب «أوراق من حياة فنان العرب محمد عبده» للصديق علي فقندش.

مقدمة فاضت عما يمكن احتسابه مقدمة حين أفضت عن حياة أسرة محمد عبده.

وفي جزئية المقابلات الصحفية معه، صرح بالكثير من الأقوال التي تحولت إلى مانشتات صحفية من بداية حياته الفنية.

ومن يريد متابعتك منتظراً أي زلة، فلن يعدم من اصطياد أي قول أو فعل تحدثه، وكثيرة هي الأقوال والأفعال التي تتبعها الناس من أجل التجريح أو التنكيت.

وتقبّل الناس لأي تجربة فنية مرتهن بالوقت، فقد وجد محمد لوماً عاصفاً من جمهوره عندما غنى «وحدة بوحدة»، تلك التجربة التي أراد فيها مسايرة الجيل الشاب، فرفضه جمهوره القديم، مع أن هذا الجمهور قبل منه هذا التجديد (الفيديو كليب) في أوائل صعوده عندما قدم هذه التجربة من خلال مسلسله التلفزيوني «أغاني في بحر الأماني»، ولهذا فهو يرى أنه سبّاق في هذا المجال، ولمحمد عبده رأي سابق في أغنية الفيديو كليب بأن الجيل الحالي يعكسون المرآة فيجعلون الصورة مقدمة على الأغنية، وعلى البصمة النفسية للفرد.

أذكر جيداً الأستاذ جلال أبو زيد -وكان ميالاً للفنان طلال مداح رحمهما الله - أنه أوقع الشاب المبتدئ محمد عبده في لقاء صحفي شهير حينما كان مانشت اللقاء وبخط كبير: محمد عبده يقول أنا فلتة..

ذلك التصريح مهما حمل من الشوفينية لفنان شاب يمتلك طموحاً وعزيمة إلا أن ذلك اللقاء لوى أعناق من لم يكن متنبهاً لذلك الشاب التهامي فدخل في اهتمام الجمهور بسبب ذلك التصريح.

والإثارة الصحفية لعبها محمد عبده باقتدار (بغض النظر إن كان متنبهاً لها أو كانت عفوية)، ومن أشهر التعليقات التي جعلت العالم العربي (مجتمعاً) يريد معرفة هذا المطرب الناشئ، حدث ذلك بسبب تصريح صحفي عندما سئل:

- ما رأيك في الفنانة أم كلثوم؟

فجاءت إجابة الفنان الناشئ محمد عبده قنبلة دوّت في أرجاء العالم العربي، فأي إجابة تلك في بداياته الفنية، فقد كان رده:

- فنانة لها مستقبل!

وكان تصريحه عن سوء مطبخ طلال مداح (رحمه الله) تصريحاً عاصفاً، إذ حمل جمهور طلال السخرية اللاذعة ولم يسلم محمد من التعدي عليه وإلصاق جميع النعوت المخزية به..

وظل هذا التصريح معشعشاً في أذهان الناس حتى جاء لقاء لاحق وسأل محمد عبده:

- أما زلت عند رأيك بأن مطبخ طلال مداح مطبخ سيئ؟

فأكد على تصريحه السابق، موضحاً أن الذين يديرون مطبخ طلال لم يكن لديهم الجدية والانتباه لفنان بحجم طلال فأسهموا في تراجع نشاطه الفني من خلال السهرات الطويلة وعدم تمكينه من الانتباه لما سوف يؤديه لجمهوره.

هذه التصريحات الهوائية جعلت محبي محمد عبده ومنتقديه أيضاً يتمنون لو أن محمد عبده لا يستجيب لأي لقاء، مؤكدين أنه فنان كبير ولا يحتاج إلى لقاءات تتحول إلى سهام في صدره، ضاربين مثلاً بعباقرة الفن بأن لقاءاتهم لا تتجاوز أصابع اليد الوحدة كحال فيروز مثلاً.

وفي التجمعات المتعددة أجد الكثير ممن يعرف أنني على علاقة بمحمد عبده يقولون لي:

- لماذا لا تتحدث مع محمد عبده أن يمتنع عن أي لقاء، يكفي أنه مطرب عظيم ولا يحتاج لأي لقاء يضعف من توهجه في قلوب محبيه؟

ولأنني أعرف أن لكل إنسان نوازعه ورؤيته الخاصة هي الترمومتر الذي يقيس به تصرفاته وآراءه وليس من حق أي شخص أن يفرض رؤيته على شخص آخر..

ربما أجدها فرصة للحديث عما يصلني من الناس عن أن محمد توقف عند أغنية (الأماكن) وأن أغانيه الأخيرة لم تعد بروعة وجزالة ما كان يقدمه، إذ أصبح يغني فقط من أجل الغناء..

وأعتقد أن هذا أيضاً ليس من اختصاص أي إنسان بفرض المسار الذي يختاره الفنان، لأن طبيعة الفنان هي التي تجعله مقدماً على تقدم آخر يرى أنه الأفضل أو أنه عمل يضاف إلى مجده السابق.

على أية حال، بصمة وجود محمد عبده كما يشتهي هو لا كما نشتهي نحن.