-A +A
محمد مفتي
مع قدوم شهر رمضان الكريم كل عام، كذلك خلال مواسم الإجازات وإجازة نهاية الأسبوع، ينتشر الكثير من الباعة المتجولين في بعض المواقع في المدن بالمملكة لتقديم بعض الوجبات الخفيفة المنتجة منزلياً، وتمثل تلك الظاهرة مصدراً للدخل للعديد من الأسر لمواجهة متطلبات الحياة، وعلى الرغم من عدم وجود ضوابط تحكم سوق تلك المنتجات إلا أنها قد تكون ظاهرة إيجابية ولكن بعد تقنينها بطبيعة الحال.

ظاهرة الباعة المتجولين ليست بفكرة جديدة وليست حكراً على بعض الأسر، ففي الكثير من دول العالم بما فيها الدول المتقدمة نجد ما يعرف بسوق الأحد أو الكاربوت «Car boot» والذي يعقد في بعض المدن وخاصة يومي السبت والأحد، حيث تقوم بعض الأسر ببيع ما يفيض عن حاجتها من المستلزمات المنزلية بدلاً من إلقائها في مكبّ النفايات، والزائر لتلك الأسواق يجد هؤلاء الباعة المتجولين منتشرين فيها، يقدمون الوجبات الخفيفة لزوار أسواق إجازة نهاية الأسبوع.


تسمى هذه الظاهرة بأسواق الظل؛ وهي تندرج تحت ما يسمى بالاقتصاد الموازي، الذي يمثل كافة الأنشطة الاقتصادية التي لا تخضع لإشراف الجهات الحكومية المعنية، وبالتالي فأرباحها غير محددة بدقة ولا تخضع للضرائب، وللاقتصاد الموازي البعيد عن الرقابة الكثير من العيوب، فمبيعاته لا تتفق مع الاشتراطات الصحية ومعايير السلامة التي تحددها الجهات المختصة، ولهذا قد تسبب أزمات صحية على المدى البعيد، غير أنه عادة ما يتم التغاضي عن تلك الأسواق كونها مؤقتة وليست دائمة.

وبعيداً عن الباعة المنتشرين في الطرقات، يمثل أيضاً سوق المنتجات المنزلية الإلكتروني مصدراً لدخل الكثير من الأسر في الوقت الراهن، وخاصة بعد انتشار قنوات التواصل الاجتماعي مثل إنستغرام وغيره، حيث تقوم بعض الأسر ببيع منتجاتها عبر تلك المنصات والتي تمكنهم من متابعة أعمالهم وجني العديد من الأرباح، دون تكبد الكثير من التكاليف كتأجير مكان لممارسة العمل وما يتبعه من تكاليف عديدة مرافقة، وبخلاف عدم توافر الاشتراطات الصحية ومعايير السلامة في تلك المنتجات، فإن غياب إشراف الدولة عليهم قد يتسبب في استغلالهم من قبل أعداء الدولة لدمجهم في شبكات الأعمال غير المشروعة كالإرهاب أو المخدرات أو غيرها، وبالتالي فإن أنشطة هذا النوع من الأنشطة تشوبها الكثير من المشكلات المعقدة والمتداخلة.

غير أنني بصفة شخصية لا أفضل القضاء على تلك الظاهرة تماماً، بل أفضل تقنينها أو حوكمتها بمعنى أدق، فتشجيع المنتجات المنزلية يساهم في كسر حالة الاحتكار وما يصاحبها من ارتفاع أسعار بعض السلع في كثير من المحلات التجارية النظامية، إضافةً إلى أنها تسهم في تخفيف حدة البطالة، لذلك من الأفضل احتواء تلك الظاهرة من خلال إخضاعها لإشراف الجهات المختصة في الدولة، ومنح أصحابها التراخيص وفق ضوابط معينة أهمها تلك المتعلقة بالاشتراطات الصحية، وقد يساهم توفير مساحات معينة محددة في بعض المدن -كالحدائق مثلاً- في تقنين تلك الأنشطة بدلاً من ترك الباعة المتجولين ينتشرون في الطرقات والأرصفة بشكل عشوائي.

تقنين الدولة لهذا النشاط سيساعد في زيادة الثقة في تلك المنتجات، وبالتالي زيادة أرباح منتجيها، كذلك من الممكن إطلاق منصات إلكترونية مرخصة لبيع المنتجات المنزلية، بحيث لا يتم البيع أو الشراء إلا من خلالها، مما يمنحها مصداقية وموثوقية كسوق رسمي افتراضي، وهو ما يعني مراقبة الدولة إلكترونياً لكل نشاط يتم بها بحيث يتمتع بالجودة الملائمة، كما أن العملاء سيتمكنون من التفاعل مع هذا السوق الاقتصادي دون خوف مما يخدم كلا من العميل وموفر الخدمة في آن واحد، وهو ما يعني في نهاية الأمر دمج أنشطة اقتصاد الظل في الاقتصاد الرسمي من خلال حوكمته وإخضاعه للإشراف الحكومي.

من المعروف أن الدول المتقدمة تتميز بامتلاكها قواعد بيانات محكمة لكل الأنشطة التي تدور داخل أراضيها، وكلما كانت الدولة أكثر تقدماً كلما تمكنت من حصر أنشطتها الاقتصادية والتنسيق في ما بينها من خلال آليات تضمن شمولها وتكاملها مع بعضها البعض، بحيث تتم ممارسة جميع الأنشطة داخل الدولة بانسيابية وتناغم، ومن الملاحظ أن رؤية 2030 تهتم بشكل خاص بتطوير الاقتصاد على أكثر من محور، ولعل القضاء على الأسواق غير المقننة وإشراف الدولة على كافة الأنشطة الاقتصادية بالمملكة سيساعد في رفع معايير الجودة والتأكد من تطبيقها بحسم كافٍ.

أتفهم تماماً سعي البلديات لتقليص أنشطة الباعة المتجولين، سواء لعدم توافر الاشتراطات الصحية بمنتجاتهم أو لتأثير وجودهم السلبي على الذوق العام، غير أننا يمكننا النظر لهذه الظاهرة من خلال رؤى متعددة وليس من خلال منظور واحد فحسب، فبدلاً من التركيز على سلبيات هذه الظاهرة يمكن النظر للمزايا التي قد تتضمنها ويمكن إفادة المجتمع بها، ولا شك أن أي مجتمع يواجه العديد من التحديات والمشكلات، ومحاربة الظواهر السلبية دون النظر لعواقب اختفائها يعد علاجاً خاطئاً وقاصراً للمشكلة، والحل يكمن في دراسة أي ظاهرة من كافة أبعادها، ثم السعي لخفض جوانبها السلبية مع الحفاظ على جوانبها الإيجابية، وبالتالي نكون قد حققنا أقصى استفادة من الظاهرة دون مساس بمزاياها، وحولنا الفشل إلى نجاح والإخفاق إلى تقدم وتنمية.