-A +A
خالد العضاض
تشبيهي عثمان الصيني بـ«قاطف النجوم» كما هو عنواني الأول لهذا المقال جاء من نجاحاته المتميزة، حيث إنه يطير من قمة شاهقة نحو السماء فيقطف مجموعة من النجوم، ثم يهبط على قمة أخرى، ليمارس الطيران إلى السماء مرة أخرى في مهمة من مهمات قطف النجوم.

أثناء مجالستك الدكتور عثمان، خصوصًا تلك الجلسات الثنائية التي يسودها جو الود والنكتة الخفيفة المحببة إلى النفس، ناهيك عن فرائد العلم في اللغة والشعر واللهجات والتاريخ والجغرافيا والاجتماع، فإن أول ما يلفت نظرك أنه يرتب سعوديتك من جديد، فيزيل تلك الخيوط الوهمية للمناطقية البشعة في ذهنك، وينزع من رأسك فتيل القبلية وعنصريتها، ويرصع وجدانك بالفسيفساء السعودية الجامعة المنصهرة في مسار الوطن، والوطن فقط، هذه تجربتي حينما اقتربت أكثر من هذه القامة السعودية السامقة.


يقول لي الدكتور سعد الصويان: «بأن الدكتور عثمان الصيني، يمثل وجهًا ثقافيًا سعوديًا يندر وجوده اليوم، من ناحية عمقه المعرفي، ومن ناحية تجاربه الثرية المتعددة في المجال الأكاديمي والعلمي، والمجال الإعلامي والصحفي، والمجال الثقافي، إذ كان من رواد المشروع الحداثي في فترة الثمانينيات وما بعدها». والصفة الأهم عند الصيني من وجه نظر الصويان: أنه واقعي، يعرف قدر نفسه تمامًا، فلا يضعها في غير موضعها، كما أنه غير متلوثٍ بشعبوية تورط بها بعض مجايليه ممن يفوقهم علمًا وفضلًا.

ولمعرفتي بنفرة الدكتور عثمان من الشعبوية، وطلب الجماهيرية، فقد أصّل فصاحة كلمة «هياط»، وأرجعها إلى القرن الثاني الهجري، كما وردت على لسان ذي الرمة التميمي، ساكن الصمَّان السعودي، وتأتي هذه النفرة بحكم الطبيعة النفسية للدكتور التي تأخذ الأمور بواقعية كما هي، لا كما هي متخيلة في الذهن، تعظيمًا أو تهوينًا، ولعل مرد ذلك إلى أمر جيني ورثه عن أجداده القدماء، أعني جين الحكمة.

ومن أجمل ما يمكن أن تسمع من آراء الدكتور عثمان: أن الاهتمام بالموروث الشعبي، وألفاظه، وأشعاره، وحكاياته، وأغنياته، وفولكلوره، لا يعكر على فصيح اللغة، ولا يقصيه، ولا يهدمه، كون ذلك يدعو إلى إعلاء شأن العامية، وهذا الرأي يأتي من رجل علم ممسك بتلابيب العربية فصيحها وعاميتها، ولربما هذا الرأي لو سمعه محمود شاكر لخفف من غلوائه بعض الشيء، وأغناه عن بحث طويل، وتنقيب مضنٍ، كما قال أثناء حديثه عن كتاب: «نفوسة زكريا سعيد، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، 1964»، ويرى الدكتور عثمان، أن دعوى هدم الفصحى من خلال الاهتمام بالموروث غير المادي، هو اتهام مباشر بهشاشة الفصحى إلى الحد الذي يمكن لقصيدة نبطية أن تهدمها، ويرى أن هذا إساءة بالغة للغة العربية، كما أن القول بهذا الأمر هو تناسٍ لحفظ الله تعالى للغة القرآن الكريم: «إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون»، والآية الكريمة كأنها تخاطب الجميع، وتقول: اعملوا ما شئتم فاللغة محفوظة بحفظ الله لها من خلال القرآن الكريم.

وحينما رأى الدكتور عثمان أن الكثير من الموروث الشفاهي، فُقد بموت الرجال الذين يحملون في صدورهم موروثًا غير مادي، لم يقف مكتوف اليدين، بل بدأ بنفسه وحاول حفظ وأرشفة ما يمكن أرشفته في ذهنه أو أضابيره، حتى ولدت جمعية التراث غير المادي، ليضطلع بمهمة لا تأتي في أعقد تفاصليها إلا من خلال الذاكرات الجمعية، وما ورثته تلك الذاكرات من ميراث قوامه الكلمة والبيت والأهزوجة، واللعبة الشعبية، وما شابه ذلك.

لم تكن علمية عثمان الصيني، وشغفه باللغة والموروث واللهجات، وأهلها وما يتعلق بهم؛ لينمو بهذه الطريقة الفريدة لولا عوامل جاء أهمها في موضع ولادته، وهي مكة المكرمة ذات التنوع والتباين البشري بأشكالهم وألوانهم ولغاتهم، والذي لا يمر في مدينة أخرى في العالم، ملايين الوجوه، وآلاف اللهجات، ومئات اللغات، التي تتشكّل في وجوه العُمَّار والحجاج، من مختلف أنحاء الدنيا، كل هؤلاء كانوا يمرون على بسطته الصغيرة أمام دكان والده في باب الصفا في الحرم المكي، الأمر الذي جعله يتعلم طرفًا من لغات شتى، حتى جاءت نقلة أخرى في حياته وهي الدراسة في دار التوحيد في مدينته الأثيرة الطائف، إذ كان الحضري الوحيد بين أبناء القبائل المتعددة، فعرف معرفتهم وأخذ ثقافتهم كاملة غير منقوصة، وصار مرجعًا لهم فيها، خبيرًا في دهاليز أنسابهم، وعاداتهم، وأشعارهم، وأغنياتهم، ورقصاتهم، وغير ذلك من مدهش العلم وغريبه وأوابده.

يقول تركي الدخيل، في مقالة فارهة ماتعة عن الصيني: في عز صدامات الحداثة مع التقليديين في الثمانينيات في السعودية، كان عثمان أحد عرابي الحداثة، ومُنَظِّريها، فكتب المقالات وسطّر الأبحاث التي ملأ بها الصحف. يصف صديقه تلك الكتابات، بأنها تفتحُ أفقًا جديدًا. يقول الدكتور أحمد التيهاني: «عثمان الصيني هو الرمز الحقيقي لمعركة الحداثة في المملكة العربية السعودية، ولكنه الرمز الذي لم يقل هأنذا، هو أحد رموز حداثة الثمانينيات، الذين ظُلموا كثيرًا، ولم يُرفع الظُلم عنهم حينما عاد التاريخ إلى رشده». وقد صَدقَ التيهاني تماماً، لكنه يتألمُ، وحُقَ له، على أمرٍ يعرف التيهاني، أن الصيني لا يُعيرهُ اهتمامًا! فتواضع عثمان، يجعله يلغي فكرة الفرد، من أجل فكرة المشروع والجماعة!

وحينما شبه فهيد العديم، في بلاغة متناهية رحلة الجد حسين من بلاد الصين عبر جبال الهملايا، وحتى بيت الله الحرام، برحلة الحفيد من تضاريس اللغة والفكر والأدب إلى عالم الصحافة والإعلام، لم يخطئ التشبيه، فوعورة الطريق وأشواكه واحدة، لا تختلفان.

من أكثر ما يخشاه الدكتور عثمان مسألة تصنيم أفكار الأشخاص، ولذلك يطالب بنزع القداسة عن التراث، وحينما يقيد ذلك بأن ما كان قرآنًا أو سنّة ثابتة ليست تراثًا إنما دين، فهو يضع خطًا وسطًا بين تطرفٍ غالٍ، وتطرفٍ آخر مجافٍ، والفكر العربي بغنى عنهما.

وشغف الصيني باللسان الإنساني لم يقف عند اللهجات، بل تجاوزه إلى اللغات الأخرى، وليسأله من يراه عن الكلمات العربية في لغة الهنود الحمر.

أخيرًا، كم هي رائعة مقولة عثمان الصيني: «بالأمس كنا نلاحق الخبر، واليوم يلاحقنا الخبر أينما كنا».