-A +A
صدقة يحيى فاضل
تعتبر عملية «التنمية السياسية» المستدامة إجراءً ضرورياً لتحديث وتطوير النظام السياسي لأي بلد، سواء كان متقدماً، أو نامياً. وتعرف بأنها: عملية دعم المشاركة الشعبية لبلد ما، ودعم انصهاره الوطني، ورفع مستوى الوعي السياسي لشعبه، وإقامة المؤسسات التي تستوعب القوى المجتمعية المختلفة في إطار قانوني منظم، وتحديث وتطوير القوانين التي تحكم الحياة في الدولة. وكما نرى، فإن من أهم عناصر هذه التنمية هي ما يعرف بـ«الانصهار الوطني».

تعنى كلمة الانصهار (Integration)، المشتقة من كلمة «صهر»، دمج مكونات متشابهة في كل واحد، بحيث يتم تكوين شيء واحد من أشياء عدة من جنس عام واحد. في كل دولة شعب، دائماً ما يكون متنوعاً، مختلفاً- عرقياً، ومذهبياً، وأيديولوجياً، وفئوياً، وجهوياً... إلخ. حتى إن كانت غالبيته من «قومية» واحدة. ويندر أن يوجد شعب متجانس تماماً، من كل النواحي. وهذا الاختلاف الطبيعي يعتبر جزءاً من خصائص البشر، التي جبلوا عليها، وخلقهم البارئ بها. ولكي تحظى الدولة -أي دولة- بشعب قوى متماسك، ومتحاب (منصهر) لا بد أن تسعي دائماً لصهر كل شعبها في بوتقة كبرى واحدة.. لتحقيق أكبر قدر ممكن من «الوحدة الوطنية»، والتضامن الشعبي، في السراء والضراء، وتحول دون حصول العكس.. أي التنافر، والاختلاف، والتشرذم، الذي يعني ضعف الجبهة الوطنية، أو ضعف «الوحدة الوطنية». فكلما كان الشعب -أي شعب- متماسكاً، ومتحداً، كلما أعطى ذلك «قوة» للدولة المعنية، والعكس صحيح.


وهذه العملية تعتبر عنصراً رئيساً من عناصر ما يسمى بـ«التنمية السياسية الإيجابية»- كما يوضح تعريفها. و«عوامل» الانقسام فيما بين البشر، وفيما بين أفراد أي شعب، بل وأي جماعة، ولو كانوا أشقاء، عديدة، ويصعب حصرها. ولكن من أهم وأكبر عوامل هذا الانقسام (الاختلاف/‏ الخلاف) التي يوردها كتاب التنمية السياسية، هي العوامل التالية:

1- القبلية: أي وجود نسبة كبيرة من الشعب، وأحياناً غالبيته، في هيئة قبائل مختلفة، كما هو الواقع في كثير من دول العالم النامي، في أفريقيا وآسيا بخاصة. وهذا ليس عاملاً سلبياً، طالما وجد الوئام فيما بين هذه القبائل، وطبقت المساواة والعدالة. بعض كتاب التنمية السياسية يدعون أنه يوجد تناقض بين القبلية، والدولة (أي دولة) وأن على المرء أن يختار بين القبيلة والدولة، «فلا يمكن الجمع بينهما»، كما يقولون. وهؤلاء يرون ضرورة العمل على أبعاد القبلية من الشأن العام، وحصرها في الشأن الخاص للأفراد، عبر ما يسمونه بـ«الإبعاد التدريجي للقبيلة من الشأن العام»، أو (Detribalization). وهي عملية معاكسة لعملية تأكيد القبلية (Tribalization). وتتم عبر إجراءات عدة، من أهمها: التزاوج، إعادة التموضع الجغرافي، الأسماء... إلخ.

ونرى أن مقولة أن «القبلية» عامل سلبي ضد اللحمة الوطنية غير صحيحة، طالما وجدت المساواة بين أفراد الشعب، ولم تميز، أو تلعب أي قبيلة أي دور مهم في الشأن العام لبلادها، دون القبائل الأخرى. بل بقيت كشأن خاص بكل فرد. وهناك بعض دول العالم النامي التي يتكون معظم سكانها من قبائل وعشائر مختلفة. ولكنها تحظى بالاستقرار، نتيجة مساواة كل مواطنيها أمام القانون، في الحقوق والواجبات.

****

والواقع، أن أول صور الدولة هي الدولة القبلية. حيث كانت كل قبيلة تمثل دولة بحد ذاتها. ولكن الدولة تطورت فيما بعد إلى صور أخرى، حتى استقرت في هيئة الدولة القومية. يقول الفيلسوف الإغريقي الشهير أرسطو (384-322 ق.م.): إن الدولة نشأت نتيجة «التطور التاريخي». حيث إن الإنسان كائن اجتماعياً. فبعد وجود الفرد، مال (بطبيعته) لتكوين أسرة. ومن مجموع الأسر تكونت العشائر، ومن ثم القبائل، ومنها نشأت القرى. ومن مجموع القرى نشأت الدولة. وإن سلمنا بذلك، يمكن القول إن كل إنسان يعود أصله البعيد إلى قبيلة معينة، أو يمكن تعيينها. ولكن، مع مرور الزمن، والتحضر، نسي غالبية البشر أصولهم القبلية الأولى، أو تناسوها.

****

2- المذهبية: وهناك شعوب في كل منها نسب (كبيرة نسبياً) تعتنق مذاهب مختلفة، وقد تكون متناقضة مع ما هو موجود من مذاهب أخرى، كأن يوجد فيها سنة، وشيعة، أو مسلمون ومسيحيون... الخ.

3- الفئوية /‏الطائفية: وتعني أيضاً وجود نسب من الشعب، لهم مصالح مادية وتوجهات معنوية، مختلفة جذرياً عن بقية الشعب، تتمثل في طبقية معينة، أو غير ذلك.

4- الاختلاف الأيديولوجي: ومن الطبيعي أن يوجد في كل شعب توجهات عقائدية (أيديولوجية) مختلفة، بعضها متنافر مع الآخر. وغالباً ما تتجسد هذه التوجهات العقائدية فيما قد يوجد من أحزاب وتكتلات سياسية مختلفة.

5- الجهوية: وتعني التحيز تجاه منطقة، أو مناطق معينة، وعدم المساواة فيما بين مناطق الدولة المختلفة.

إن «التفريق» فيما بين أبناء الوطن الواحد، والنظر إلى بعضهم البعض بدونية، واحتقار، وإقلال من الشأن، بناء على أساس الانتماء القبلي، أو المذهبي، أو الفئوي، أو الأيديولوجي، أو الجهوي، أو غيره، يعتبر سلوكاً «عنصرياً»... يجب أن يحارب، وأن يعاقب عليه القانون. فالعنصرية، خاصة إن استشرت، وأصبحت سلوكاً متبادلاً فيما بين الفئات (الطوائف) المختلفة، تعتبر من أهم عوامل الفرقة الوطنية، إن لم تكن أهمها.

إن علم السياسة، ونظريات التنمية السياسية، تقدم حلولاً.. تهدف للتوفيق بين كل مكونات أي شعب.. وجعل هذه الاختلافات إضافات إيجابية، تدعم قوة الدولة، وتقيها شرور الانقسام والضعف. وما تقدمه نظريات علم السياسة، في هذا الشأن، عبارة عن إجراءات وسياسات مستمرة، ومستدامة، تهدف لضمان وجود أقصى درجة ممكنة، من الانصهار الوطني، يكفل بقاء شعبها متماسكاً، ويمنحها قوة مضافة، ويحول دون تدهور تماسكها الوطني، ومن ثم إضعافها.

ومن أهم «وسائل» التعامل مع الاختلافات القبلية والمذهبية والفئوية والأيديولوجية.. إلخ، هي: تطبيق مبدأ المساواة، ومحاربة «العنصرية»، بكل أشكالها. إضافة لإقامة المؤسسات التي تستوعب القوى الوطنية، وتحقق مطالبها، في إطار قانوني منظم. وهذه العملية تعتبر من العناصر الرئيسة للتنمية السياسية الإيجابية. والمقصود هنا إقامة مؤسسات المجتمع المدني، بأنواعها. علماً أن دساتير معظم دول العالم تحظر قيام أحزاب سياسية، بناء على أسس عرقية، أو مذهبية، أو فئوية، أو جهوية.