-A +A
أريج الجهني
«نحن بنو الموتى فما بالنا.. نعاف مالا بد من شر به.. حتى قال: يحسبه دافنه وحده ومجده في القبر من صحبه».. هكذا رثى المتنبي عمه أبا شجاع عضد الدولة فما أكثر الموتى العظماء ومن ماتوا ومات معهم تاريخ مهيب، وما أكثر الرؤوس التي تحت التراب لكن فضلها يعلو الجبال والسحاب، وقد اشتهر شعر الرثاء في الحياة القديمة للعرب، بل إن الخنساء على سبيل المثال لا يتذكر الإنسان الحديث منها سوى رثائها لأخيها صخر، فالموت لدى المجتمعات الروحانية ذو شق بيولوجي وذو شق اجتماعي أخلاقي بالدرجة الأولى ويروقني القول الدارج باللهجة المحلية (ما ياخذ الميت مكانه مع الحي، ويقال الحي يحييك والميت يزيدك غبن)، وهكذا بين تركة أدبية بلاغية وبين بصمات ثقافية متعددة يبقى التعاطي مع الموت من وجهة نظري معضلة قائمة، وإلحاقاً للمقالين السابقين (الذاكرة الرقمية وطالبان صفعة للذاكرة أم تذكير بالنعمة) وجدت أنه من المهم أن استدرك من ناحية حقوق الميت التقنية ومن جانب تأثير الصحوة على الفهم الصحي والإنساني للموت.

بداية من المهم أن ندرك وجود فجوة مفاهمية يعيشها الجيل الجديد بين الإقبال على الحياة والشغف من جهة وبين الاستعداد للرحيل وترك أثر طيب وحميد دون أن نجعل أرواحهم الجميلة عرضة لليأس والقلق والفزع، في مقال الذاكرة الرقمية فاتني أن أذكر خطورة ترك الذكريات الرقمية وكيف يمكن أن تكون وفاة الشخص سبباً في اكتشاف أسرار خطيرة عنه، لهذا قد استحدثت قوقل طريقة خطيرة بأن يمنح الشخص الإذن لها بإغلاق حساباته في حال التوقف عن التفاعل لمدة ٩ أشهر وحينما تتأمل في هذه الفكرة تجد أنها بالفعل تحترم الإنسان وتستأمنه على تركته التقنية، أثيرت لمرات عديدة نقاشات حول جدوى إغلاق حسابات الموتى خاصة من لم يتركوا (وصية) لأهلهم، لذا أجد أنها فرصة للتفكير بمصير حساباتنا وأجهزتنا بل لا أجد أي حرج بمشاركة أشخاصنا المقربين مفاتيح الدخول بل لعل هذا يجعل الإنسان يعيد حساباته في حساباته.


إن الفهم الصحيح للموت لا يقودنا لليأس بل على العكس يجعل صاحبه أكثر لطافة ورقة، وبخلاف التركة المتطرفة التي تركها الصحونج في عقول جيلي ومن سبقونا بأن التفكر بالموت يقودنا للزهد بالحياة أجد أنهم مخطئون تماماً، فالوعي يجعلك أكثر تمسكاً بالنمط الصحي وبالعلاقات الصادقة والتواصل الإنساني النبيل، ولنصل لفهم إيجابي علينا فحص الحالة العقلية للمجتمعات والتحيزات الثقافية والإدراك والسلوكيات الأنانية والفجة، بل لعل عشرة الإنجليز تجعل الإنسان يستوعب أن الجزء الأجمل من الحياة لا يبدأ إلا بالخمسينات! بل تشاهد نشاط الفئات العمرية التي تصنف لدينا بأنهم (رجلهم والقبر) يجوبون الطرقات ومبتسمين ويسافرون بخفة ورشاقة، ولا يخجلون من الحب والحياة لأنهم يتقنون فهمها بخلاف من يعتبرون من تتجاوز الثلاثين بأنها أنثى منتهية الصلاحية.

بالتأكيد إن النفس البشرية بعد رؤية أول حالة وفاة لشخص عزيز على مرقدها الأخير وقبل الدفن لن تعود كما كانت، هناك من ينهار وهناك من يتبلد وهناك من ينكر عقله ويعيش حالة إنكار لا تنتهي، ناقشت قبل سنوات في مقال (عيسى الغيث ومقبرة سانت ماري) عن منع النساء لدخول المقابر واليوم بعد وفاة والدي أجدد الفكرة وأجدد الشكر أيضاً للرعاية الفائقة التي توليها الجهات المختصة بالموتى والمشاريع الخيرية العديدة ولله الحمد. أخيراً، أسأل الله أن يرزقكم الحياة الطيبة والصحة والعافية وأن يغفر لموتانا وموتاكم والناس أجمعين، نعم لا بأس في التمهل وإعادة النظر في ما ذهب لكن كن متأكداً أن حياتك القادمة ستعيشها كما تريد وبالشكل الذي تحب وأن تتصالح مع فكرة الرحيل، بل أن تسمح بالرحيل لمن شاء قبل وقته، فالوفاة في الأجساد تحدث تماماً بالأرواح والقلوب وإن كانت نابضة!. كونوا بخير.