-A +A
محمد مفتي
لا يمكنني على وجه الدقة أن أحصي عدد الكتب والمقالات التي قرأتها عن تاريخ وحاضر العراق، فقد استهوتني القراءة عن كل ما كتب عنه قديماً وحديثاً، إنه عراق القعقاع بن عمرو، عراق أبي جعفر المنصور الذي أسس مدينة بغداد واتخذها عاصمة للدولة العباسية، عراق صلاح الدين الأيوبي محرر القدس، إنه عراق الكثير من أبطال وأشاوس وقادة الفترة الذهبية للحضارة الإسلامية، ولطالما أضحى العراق منذ سقوط عرش كسرى في عهد الخليفة عمر بن الخطاب موطناً يحتل مكانة خاصة في قلوب المسلمين، فقد كان ولا يزال موطناً لأغنى وأرقى حضارات العالم.

لقد استهوتني أيضاً السياحة وأحببت السفر للكثير من دول العالم منذ صغر سني شرقاً وغرباً، وعشقت الكثير من معالم تلك الدول التي اعتدت السفر لها مراراً وتكراراً، وقد سافرت للعديد من الدول العربية بطبيعة الحال، غير أنني لم أتمكن يوماً من زيارة العراق، للأسف الشديد، على غرار الكثير من الدول العربية الأخرى التي قمت بزيارتها، على الرغم من رغبتي الجامحة لزيارته والتعرف على المعالم التاريخية الرائعة والخالدة لهذا البلد الذي يعكس جزءاً عريقاً وراسخاً من هويتنا العربية والإسلامية.


غير أن العراق منذ السبعينات وحتى سقوط نظام صدام حسين عام 2003، عانى من عدم الاستقرار الأمني، وخاصة بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي أتت على الأخضر واليابس فيه لفترة قاربت الثماني سنوات، تلك الحرب التي حرصت بعض الدول الغربية على النفخ في نيرانها لاستنزاف خيرات كلا البلدين، وقد استنزفت الحرب خيرات العراق وموارده وكانت سبباً جوهرياً لأن يشهد الكثير من الأهوال والكوارث والشدائد، ثم تعقدت الأمور أكثر مع قيام نظام صدام حسين بالاعتداء الآثم على أشقائه في الكويت باحتلالها واندلاع حرب الخليج الثانية، مما ترتب عليه المزيد من التعقيد في الوضع العراقي الداخلي ولا سيما عقب فرض الحصار والعقوبات الدولية عليه، فقد بات العراق وقتها -وفي ظل هذا النظام- أشبه بسجن كبير.

في عام 2003 وما بعدها اندلعت الفوضى في العراق كالنار في الهشيم، فقد جنى عليها ذلك النظام السابق والذي نتج عن سقوطه انتشار الكثير من الأحداث السلبية التي زادت من هدر موارده وسفك دماء مواطنيه، فقد ظهرت الكثير من الميليشيات المتطرفة المسلحة كداعش وغيرها وبدأت في التمدد كالسرطان في جسد الدول العربية ونهشها بلا رحمة، ونتيجة للفوضى العارمة شهد العراق -وقتذاك- الكثير من الأحداث الإرهابية والتفجيرات، هذه الميليشيات المسلحة أرهقت الحكومات العراقية التي تولت السلطة بعد عام 2003، فقد شهد العراق موجات عديدة من الاضطرابات الأمنية التي كان التدخل الخارجي أحد أسبابها، وقد حرصت بعض الأطراف على أن يظل العراق على صفيح ساخن، إلى الدرجة التي بات فيها مهدداً بنشوب فتنة طائفية بين أبنائه قد تتحول لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر.

غير أنه مع توالي الحكومات وصعود الحكماء لسدة الحكم في هذا البلد العريق بدأت الأمور الأمنية تستتب على نحو تدريجي فيه، وبدأ العراق الجريح يسترد بعضاً من عافيته لتستقر شؤونه الأمنية والسياسية والاقتصادية نسبياً، ودون جدال لم تترك دول الخليج يوماً شقيقتها العراق فريسة للفوضى والضياع الأمني، ولم تتركها تواجه مصيرها المحتوم دون مد يد المساعدة لها، ومع تكاتف الجهود من كلا الطرفين نحن على يقين من أن العراق سيتمكن من استعادة السيطرة على الأوضاع فيه ليعود مرة أخرى قوياً مزدهراً للبيت العربي.

من المؤكد أن المملكة، كغيرها من دول الخليج، حريصة على عودة العلاقات مع العراق الشقيق، وها هي بوادر عودة العلاقات تعود بصورة طبيعية بين العراق وجيرانه، ولعل استئناف الرحلات الجوية بين جدة وأربيل في شمال العراق يمثل أحدث النماذج المعبرة عن عودة هذه العلاقات الطيبة بين الجارتين التاريخيتين، التي من المتوقع أن تشهد زخماً كبيراً كماً وكيفاً خلال الفترة القريبة القادمة، لتشمل بقية المجالات وتعكس العودة الحقيقية للعراق كإحدى أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط.

لا يمكننا، بحال من الأحوال، أن ننكر أن العراق لا يزال يتعافى من كبوة السقوط في شرك الاضطرابات التي عاثت فيه فساداً لسنوات طويلة، فالعراق ربما لا يشهد استقراراً كاملاً في كافة مدنه ومناطقه ومحافظاته، فالأيدي المخربة الغاشمة التي تغذيها أطراف خارجية لا تزال تبحث عن موطئ قدم لها في ذلك البلد الثري بموارده وخيراته، غير أننا على يقين من قدرة رجاله على استعادة السيطرة التدريجية على كافة شؤونه وأحواله، فالعراق يغص بالكثير من الكفاءات والقيادات الوطنية المخلصة التي لا ترجو سوى مصلحة وطنها ولا تبحث عن انتصارات شخصية ضيقة، بل تفضل مصلحة الوطن ومصلحة أبنائه ككل على ما عداها، ونحن على ثقة من أنه مع تكاتف الجهود الداخلية والخارجية فإن مستقبل العراق القريب سيشهد ازدهاراً اقتصادياً واستقراراً أمنياً يعيده لعصوره الذهبية ولحضارته العريقة مرة أخرى.