-A +A
محمد مفتي
يعيش كل فرد في عالم متداخل مليء بالمتغيرات والأحداث المختلفة، ومهما كانت شخصية المرء تميل للانعزال والانطوائية ففي نهاية المطاف لا بد أن تتأثر كل شخصية بالمجتمع الذي تعيش فيه، ولكل منا منظومته الفكرية والسلوكية التي تشكلت وفقاً للعديد من الظروف الشخصية التي مر بها، والتي لا تتوقف عن تشكيل وعيه ومن ثم سلوكياته على مدار حياته، وتختلف العوامل المؤثرة في حياة كل إنسان طبقاً لطبيعة التجارب التي خاضها، ويعد التعليم أحد العناصر المؤثرة كثيراً، ولذلك نجد أن غالبية المثقفين يتميزون بقدرة ملحوظة على التقييم الصحيح لما يدور حولهم من متغيرات، كما أن السمات الشخصية والظروف الأسرية قد تلعب دوراً بالغ الأهمية في عملية تقييم الفرد لما يحيط به من أحداث خارجية.

تختلف الرؤى والمفاهيم التي يكونها الفرد تجاه الأحداث المحيطة به طبقاً للمؤثرات السابق ذكرها، فعلى سبيل المثال قد يرى بعض الأشخاص أن عمل المرأة غير ضروري، وأن مهمتها الأساسية تنحصر في رعايتها لأسرتها وتربية أطفالها، بينما يرى آخرون، أن عمل المرأة حقها المكتسب وعليها أن تسهم في تطوير المجتمع الذي تعيش فيه، الأمر نفسه يتكرر مع نظرة الطالب لمعلمه، فالطالب المتفوق يرى معلمه ناجحاً ولديه القدرة على توصيل المعلومات، بينما يراه الطالب المهمل عكس ذلك تماماً، وبالتالي فإن كل فرد خلال تقييمه لما يحدث من حوله يُظهر مكنون نفسه وخباياها، هل هي نفس سوية تتمتع بفطرة سليمة، أم أنها مشوهة مضطربة تعاني الكثير من الأزمات وتُسقط نواقصها وعيوبها على كل من حولها عمداً أو جهلاً؟


في المقابل يسعى البعض باستمرار لإبداء آرائهم في كل ما يحيط بهم من أحداث سواء كانوا متفقهين فيها أم لا، لكن الشخصية غير السوية تخرج جزءاً من مكنونها المشوه للتعبير عن الأحداث أو لتقييم الآخرين، وقد ظهر الأمر جلياً خلال الآونة الأخيرة، لا سيما عقب تدشين الكثير من وسائل التواصل الاجتماعي، فنجد البعض وقد أسهب في تحليل بعض المواقف وربما لم يقرأ كتاباً يتناول تفاصيلها، زاعماً أن ما يقوم به هو نوع من التأصيل العلمي لأحداث واقعية، بينما هو في حقيقة الأمر اجتهادات ذاتية تماماً.

في واقع الأمر تنطوي هذه الظاهرة على الكثير من الخطورة، فهؤلاء الأشخاص قد يمثلون حجر عثرة في سبيل التقدم وتطور المجتمعات، نتيجة تشبعهم بخبراتهم الذاتية التي قد تكون سلبية، أو بسبب أنانيتهم المفرطة، وهذه الفئة غالباً ما ترفض التغيير وتسعى جاهدة لمقاومة أي نوع من أنواع التطور، فهم حريصون على أن يظل كل شيء على حاله حتى لو كان معيباً أو ناقصاً، فطبيعتهم وأحداث حياتهم تميل للمحافظة والإبقاء على الماضي، فهم رافضون لأي جديد حتى لو كان إيجابياً، فالجديد في نظر هؤلاء مرفوض لمجرد أنه جديد، ذلك أنهم يرون أن حراك المجتمع للأمام لا يعني إلا أنهم سيبقون في آخر الركاب، ولذلك ليس أمامهم سوى عرقلة الركاب بأكمله ومنعه من التحرك من الأساس.

بنظرة واقعية لما يدور حولنا نجد أن المشاعر والسلوكيات الإنسانية معقدة ومتشابكة ومتداخلة لأقصى درجة، وكلما نضجنا وانتقلنا من مرحلة عمرية إلى مرحلة عمرية أخرى تتغير رؤيتنا بالكامل تجاه الحياة ونزداد فهماً ونضجاً واستيعاباً لها، ولعل مفهوم الخطأ البشري من أعقد المفاهيم البشرية وأكثرها جدلاً على مدار تاريخ الحضارة الإنسانية، والخطأ البشري هو سلوك مصاحب لأي سلوك إنساني، وهذا معناه أنه كلما زاد حجم العمل كانت نسبة الأخطاء المرادفة له في اضطراد مستمر، وبطبيعة الحال هذا ليس تبريراً لارتكاب الأخطاء، ولكنه مجرد محاولة لتحليل فكرة الخطأ الإنساني ووضعها في سياقها العام، فالأخطاء كانت ولا تزال مورداً متجدداً للحكمة البشرية وبوابة واسعة للإبداع.

من الطبيعي أن يعاد تصويب الأخطاء بعد تعريفها الصحيح بعيداً عن التحيز، غير أن الموضوعية في تحديد الخطأ ثم تصويبه قد تبدو عسيرة في بعض الأحيان، خاصة في ظل وجود فئة تكرس حياتها بالكامل لإدانة كل سلوك يقوم به الآخرون، فئة من صيادي الأخطاء المتربصين لاقتناص أي خطأ قد يبدر من أي شخص آخر، عفوياً أو عن عمد، فئة كل ما تقوم به في الحياة هو تتبع الآخرين وترصد الأخطاء التي يرتكبونها، وفي واقع الأمر سلوكيات هؤلاء ليست عفوية أو مؤقتة، بل هي ثقافة يمكننا أن نصفها بأنها ثقافة الاعتراض، فالاعتراض هنا سلوك متكرر أساسي وجوهري، بل ويختصر حياة بعض الأشخاص.

والأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة متعددة، فقد يجد البعض نفسه عندما يعترض يبدو مميزاً ومختلفاً عن الآخرين، مؤكداً مقولة «خالف تُعرف»! بينما يعتقد البعض الآخر أن ترصده لأخطاء الآخرين يرفع من قدره ويجعله أفضل من الجميع، فهو المصلح العارف ببواطن الأمر، فإن لم يجد ما ينتقده يشحذ ذهنه لأي خطأ - ولو بسيط جداً - عابر هنا أو هناك، ليضخم منه ويهوله بحيث يصنع من الأمور التافهة قضايا وإشكالات، وفي واقع الأمر هذه الفئة مزعجة وتشكل درجة من الخطورة على المجتمعات المستقرة، فهي تقوم بنثر بذور الفتن وتوغر الصدور وتعمق الانشقاقات، وكأنها تدور في فلك مقولة الكاتب الروسي مكسيم غوركي: «خُلقنا لنعترض».