-A +A
محمد مفتي
شهد قطاع الاتصالات في العالم كله الكثير من التطور خلال القرن المنصرم، ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت إلى التسارع الكبير في تطوير شتى المجالات هو اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث سارعت كل الأطراف فيها إلى إنتاج أفضل ما لديها من خلال استخدام أحدث التقنيات في مجال الاتصالات وصناعة الأسلحة، والكثير من الاختراعات التي نشهدها اليوم كانت نتاج غزو الفضاء وانتشار الأقمار الصناعية التي كان أحد أهدافها توفير الاتصالات العسكرية بسرعة، إضافة إلى كونها أدوات للتجسس وخاصة بين الدول العظمى.

أصبح من المؤكد بالنسبة لنا الآن أن الحاجة أم الاختراع، وأن الإبداع يخرج من رحم الأزمات، وهو يهدف دوماً لتوفير الحلول التي تساعد في التقليل من حجم الكوارث، وقد سارعت الدول العظمى بعد انتهاء الحربين إلى تطويع التقنيات التي توصلت لها واستخدامها سلمياً لتحويل العالم لقرية كونية، وقد ساهمت ثورة الاتصالات حتى في تغيير العادات ونمط الحياة بالنسبة للكثير من الشعوب، ولعل الجائحة التي ضربت الكرة الأرضية في السنوات الأخيرة بسبب فايروس كورونا دفعت العديد من الدول حينها إلى فرض حظر تجوال جزئي أو كلي، الأمر الذي أدى إلى شلل في الحركة والتعاملات في العديد من المجالات كالتجارة والتعليم والصحة وغيرها.


ولأهمية قطاع التعليم فقد لجأت غالبية الدول التي ضربتها الجائحة إلى نظام التعليم الإلكتروني واستخدام منصات تعليمية كانت موجودة سلفاً ومخصصة لبرامج التعليم عن بُعد، إضافة إلى تطوير بعض البرمجيات المناسبة لمراحل التعليم العام، وقد كانت البنية التحتية في المملكة جاهزة لمواجهة هذا التحول الرقمي في السياسة التعليمية لكون التعليم عن بُعد كان ولا يزال أحد البرامج المستخدمة بالفعل في الجامعات السعودية حتى قبل الجائحة.

لعل أشهر البرامج التطبيقية للتعليم الإلكتروني التي وفرتها الجامعات السعودية هو نظام البلاك بورد، الذي تتيحه شركة غربية تحمل الاسم نفسه لتوفير خدمات التعليم الرقمي التفاعلي، وقد كانت الجامعات السعودية سبّاقة في استخدام هذا النظام، وهو نظام يتيح التواصل مع عدد كبير من الطلاب من خلال جلسات افتراضية تفاعلية، ولعل ما يميز مثل هذه البرامج هو أنها تتيح استخدام أدوات تفاعلية مفيدة أثناء المحاضرات، إضافة إلى قيامها بحصر عدد الطلاب لتحديد المتغيبين منهم، الأمر الذي ساهم في توفير الجهد للمدرس، وذلك بخلاف قدرتها على تقديم شرائح عرض تفاعلية، كما أنها تتيح التفاعل الشفهي بين الحاضرين.

لعل من أهم مزايا مثل هذه البرامج هو إتاحتها تسجيل المحاضرات بحيث تكون متاحة للطلاب بعد انتهائها فعلياً، واسترجاعها في أي فترة خلال الفصل الدراسي، وهو ما يعني زيادة القدرة التحصيلية للطالب نتيجة توافر الفرصة لتكرار الاستماع للمحاضرات المسجلة، فالعملية التعليمية وفق هذا المنظور تبدو وكأنها متاحة على مدار الساعة وفي الوقت الذي يناسب الطالب، وهو ما انعكس على أداء الطلاب إيجابياً بطبيعة الحال.

لعل أهم الانتقادات الموجهة لمثل هذه البرامج هو عدم ملاءمتها لبعض التخصصات التطبيقية كالطب والهندسة وغيرهما من التخصصات التي تتطلب تفاعلاً مباشراً بين المعلم والطالب، الأمر الذي حدا بالبعض إلى الدعوة لعدم استخدامها دون تفرقة بين التخصصات النظرية والتطبيقية، وبشيء من الحيادية فإن برامج التعليم عن بُعد قد تكون أكثر ملاءمة للتخصصات النظرية البحتة، وخاصة داخل الفصول التي تحتوي على عدد كبير من الطلاب، ولعل بعض المعلمين يلاحظون تشتت الطلاب وصعوبة تركيزهم داخل الفصول الدراسية ذات الأعداد الكبيرة التي تحتوي على مائة أو مائتين مقعد مثلاً، وهي المشكلة التي لا تواجهها برامج التعليم عن بُعد بسبب استخدامها للحاسوب أو الأجهزة الذكية.

بعد تقلص أعداد المصابين في المملكة والعودة للحياة الطبيعية عادت الدراسة حضورياً في الجامعات السعودية، مما أثار التساؤل بشأن جدوى الاستمرار في استخدام هذه البرامج، وبصفة شخصية أجد نفسي ميالاً إلى استمرار استخدام هذه البرامج لبعض التخصصات النظرية التي تناسبها وخاصة للمواد التي تضم أعداداً كبيرة من الطلاب، ومن الممكن التغلب على بعض السلبيات الناتجة عن استخدامها، مثل سلبيات عملية التقييم -والذي كان مفروضاً خلال فترة الجائحة- من خلال عقد الاختبارات حضورياً خلال الفصل الدراسي، بحيث يتم تلافي التقييم الإلكتروني العشوائي، لأن السؤال عن الاستمرار أو عدم الاستمرار في العمل بمنظومة التعليم الإلكتروني لا تتم الإجابة عنه بنعم أو بلا، بل يمكن الإجابة عنه تفصيلياً طبقاً لكل تخصص على حدة، وبما يلائم إمكانيات كل جامعة.

ما أثار انتباهي خلال فترة ما بعد الجائحة هو استمرار الاعتماد على التطبيقات نفسها، ولقد سبق لي التعامل مع بعض هذه البرامج ووجدت أنها ليست بالمعجزة، أو أنه من المستحيل تطوير مثيلاتها من قبل الجامعات السعودية، فبعض الجامعات السعودية وعلى الأخص جامعة الملك عبدالعزيز قطعت شوطاً كبيراً في تطوير البنى التحتية التعليمية خاصة فيما يتعلق برقمنة العملية التعليمية، كتسجيل المواد وحذفها ورصد نتائج الطلاب ومتابعتهم، إضافة إلى ما حققته الجامعة أيضاً من إنجاز ضخم في رقمنة العملية الإدارية بها، ولا أشك للحظة في قدرة الجامعات السعودية بما تملكه من إمكانات متاحة في قدرتهم على تطوير برامج شبيهة بنظام البلاك بورد وغيرها، فالإمكانات والمهارات والدوافع متوفرة لا تنتظر سوى إشارة البدء.