-A +A
وفاء الرشيد
عدت للكتابة بعد توقف إرادي وكلي شوقاً للنبش والعصف بالعقول ودواخلها، وقد اخترت أن أحدثكم في عدة مقالات متتالية عن التدين من منظور إنساني، بعد نقاش دار بأيهما يأتي قبل الإنسانية أم التدين؟

بعيداً عن الهموم الأيديولوجية والاعتبارات السياسية الظرفية دعونا نبحر..


بدايةً ما أعنيه بالتدين هنا هو شعور إنساني عميق، في ما وراء اختلاف الديانات والملل والطوائف، ينطلق من ثلاثة مصادر كبرى هي الأساس في تشكيل الظاهرة الإنسانية.

المقدس هو أول هذه المصادر! فعندما ننبش بالمقدس وما تحيل إليه فكرة المقدس والتي تعني في دلالاتها الانتربولوجية نقطة الارتكاز المطلقة في الاجتماع البشري، وهي حالة عامة لا يمكن أن يخلو منها أي مجتمع قديماً ولا حديثاً... فقد كتب عالم الانتربولوجيا الدينية مرسيا ألياد في كتابه الشهير «الحنين إلى الأصول»: «إن المقدس لا يتضمن الإيمان بالله، أو بالأرواح، إنه تجربة واقع، ومصدر وعي بالوجود في العالم»، فليس من الصحيح أن الحضارة الحديثة تخلصت من المقدسات، وتعرت من الأديان، بل على العكس فإن تراجع الديانات والمعتقدات الجماعية والموروثة لم يؤد إلا إلى انتقال المقدس من الطقوس الدينية التقليدية إلى أنماط جديدة من الاعتقادات والممارسات، قد تكون أحياناً في صيغة معادية للدين! فالماركسية كمثال هي فلسفة إلحادية كانت نمطاً من الديانة المادية الكبرى لنصف البشرية تقريباً طوال القرن العشرين.

أما المصدر الثاني فهو المرجعية الأخلاقية العميقة للإنسان، ذلك أن القيم السلوكية والمثل العليا كلها، تنطلق بشكل أو بآخر من الدين... وهذا ما بينه الفيلسوف الألماني أمانويل كانت في كتابه «نقد العقل العملي»، حيث اعتبر أن القانون الأخلاقي لا يمكن فصله عن المسلمات الكبرى، مثل وجود الله وخلود النفس... بل إن كانت اعتبر أن مقولة الحرية والتي هي أساس الحداثة، هي فكرة دينية في المنشأ بالأصل لكونها تتعارض مع العقل التجريبي العلمي الذي ينظم الطبيعة في قوانين ثابتة ومحدودة.

اليوم نجد أن المجتمعات الليبرالية الغربية ألغت القيم الدينية من القوانين العامة للدولة، إلا أن الأفكار الكبرى التي استمدت منها حقوق الإنسان، وفي مقدمتها فكرة الكرامة الإنسانية لها جذورها الدينية العميقة.

لنأتِ هنا للمصدر الثالث وهو التراث البشري، الذي قال عنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، إنه مستودع الحكمة الإنسانية، وهو في حقيقته تراث ديني لا تفتأ البشرية ترجع له عندما تدخل في إشكالات وأزمات وجودية واجتماعية كبرى... فنحن كبشر لنا إرث إنساني يسكن لغتنا وتقاليدنا وثقافتنا، وكل الآداب العامة التي نقرأها بشغف واستمتاع كلها تختزن الدين وتعبر عنه بطريقة أو بأخرى، بما لا يمكن تجاوزه أو التنكر له.

إن هذه المعاني الفلسفية والاجتماعية للدين تبين بوضوح انغراسه في عمق الظاهرة الإنسانية، بحيث لا يمكن للإنسان أن ينفصل عن الدين أو التدين، بقدر ما أن الدين نفسه هو في ما وراء جوانبه اللاهوتية تجربة إنسانية جوهرية.

سنبحر أكثر بمقالات لاحقة في المرجعية الإسلامية العميقة للنزعة الإنسانية في ديننا الإسلامي، وبما تزخر به الكتابات الفلسفية والصوفية في تراثنا الغني.

وقديماً ورد في الأثر «ألسنة الخلق أقلام الحق».