-A +A
طلال صالح بنان
من أهم معالم الدولة القومية الحديثة، بالذات دول العالم الثالث، حكم العسكر. هناك فرق بين حكم العسكر وعسكرة الحكم. في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، كان لعسكرة الأحزاب السياسية، دور في الاستيلاء على مؤسسات الدولة الدستورية واستفراد أدولف هتلر بحكم ألمانيا.. وبينيتو موسوليني بحكم إيطاليا. اليابان، في فترة ما بين الحربين، كان للعسكر دورٌ في تهميش وإضعاف مؤسسات الدولة الدستورية. العسكر خططوا لاغتيال الإمبراطور، لمنع إعلان استسلام اليابان (٢ سبتمبر ١٩٤٥)... أمرٌ لم ينساه الأمريكيون للإمبراطور هيرو هيتو، فأبقوا عليه وعرشه.

بسبب العسكر، كان نادراً ما ينجح الحكم المدني، في الدول المستقلة حديثاً. سرعان ما انتشرت موجة الانقلابات العسكرية، حتى أن الكثيرَ منها في آسيا وأفريقيا، وفي منطقتنا العربية مازالت تُحكم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالعسكر. القليل منها تحولت بعد مخاضٍ عسيرٍ للحكم المدني، وإن كان شبح العسكر مازال طيفاً يقض استقرار بعض تلك الدول.


الكثيرُ من الدول العربية وغير العربية عانت من حكم العسكر.. أو من ظاهرة عسكرة الحكم بها. في سوريا والعراق عسكرة حزب البعث، مكنت قيادته سواءً القطرية أو القومية، من حكم العراق منذ ١٩٥٨، حتى ٢٠٠٣.. وفي سوريا من عام ١٩٧٠ وحتى اليوم. في اليمن وليبيا، خَلّف العسكر حرباً أهلية، مازال البَلدان العربيان يعانيان منها. في السودان، لازَمَ حكم العسكر البلاد، تقريباً منذ الاستقلال، لليوم. هناك يأبى العسكر ترك الحكم، وتفرغوا مؤخراً لتسوية صراعهم على السلطة، في تشبثٍ مستميت للبقاء في السلطة، بأي ثمن.

تبقى دولٌ عربية يأبى العسكر فيها الخروج من الحكم، ولو لفترة وجيزة، مع إصرار عنيدٍ على مقاومة أي تحول للحكم المدني، والمضي في عسكرة الدولة والمجتمع، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحتى دينياً. هناك دولٌ، مثل باكستان، يأبى العسكر أن يتركوا الحكم، وإن رضوا بإدارة المشهد السياسي من وراء الستار، ليُبْقُوا على سيطرتهم الفعلية على البلاد بإيجاد واجهة مدنية لحكمهم، تمارس طقوساً «ديمقراطية فولكلورية» تُرضي فعاليات إقليمية ودولية تتحرج من التعامل مباشرةً مع أنظمة عسكرية صِرْفةَ.

مشكلة حكم العسكر وعسكرة الحكم، أنها تنتهي بفشل الدولة. بل وحتى أحياناً بزوال الدولة. العسكرُ، في هذه الدول ثبت أنهم غير قادرين على إدارة الدولة.. وغير متسامحين بمشاركة الحكم، حتى بين بعضهم البعض. الهَمْ الوحيد للعسكر؛ البقاء في السلطة، دون الغفلة ولو للحظة، عن احتمالات فقدهم لها... وإن كانوا لا يستبعدون تماماً خروجهم من السلطة، فهم يدخرون لتلك اللحظة، من موارد الدولة وثروة الشعب. بالنسبة للعسكر، السلطة لا تمثل لهم شراهة لا متناهية للتشبث بها، فحسب... بل هي مورد أمني لا غنىً عنه. السلطة بالنسبة للعسكر، دونها خَرْطُ القتاد، لدرجة الموت.

شعوبٌ عديدةٌ تخلصت من حكم العسكر وتعيش اليوم أنظمة حكم مدنية مستقرة. بعد تجربة حكم عسكر مريرة ومكلفة، انتهى حكم العسكر في إندونيسيا وكوريا الجنوبية والبرازيل والأرجنتين وتشيلي وأنجولا وأثيوبيا وأوغندا ورواندا وتركيا والبرتغال.. وكان آخر محاولة لعودة حكم العسكر في أوروبا، فشل الانقلاب العسكري في إسبانيا (٢٣ فبراير ١٩٨١). دولٌ أخرى، تمر هذه الأيام بفترة انتقالية، تشق فيها طريقها ببطء حذِر نحو الحكم المدني، مثل: الجزائر.. وتبقى دولٌ، مثل تونس تتعثر فيها الديمقراطية، بدعم من العسكر.

باختصار: عصر الانقلابات العسكرية، يشارف على نهايته. لم يعد مقبولاً عالمياً وإلا إقليمياً، بالانقلابات العسكرية، خاصةً إذا ما أطاحت بأنظمة حكم مدنية.

حكم العسكر إلى زوال، لأنهم يستقلون قطارا تترنح عجلاته خارج قضبان مسيرة حركة التاريخ.