قضى النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة زمناً، كان فيه متمسكاً بتقاليد وأعراف وقِيَم وعادات، نبعت ثقافته منها، وتربى عليها، وتعامل بها، بحكم طبيعة المكان، ومعطيات الزمان، وقُدرات الإنسان، فلما أوحى الله إليه كتابه، احتكم إلى المُقدّس، تفادياً لتقديم قناعات الأوادم على حكمة وتوجيه خالقهم، ولم ينفك كُليّةً من موروث أهله، فلما أذن له بالهجرة إلى المدينة، دخل مجتمعاً له طقوسه ومراسمه وشعائره، فلم ينصدم ولم يُصادم، بل تماهى مع الواقع، فلبس الثياب المخيطة، التي لم يكن له عهد بها في البلد الحرام، واكتسى الحُلل اليمانية القشيبة، والأردية الأعجمية الزاهية، وسكن بيوتاً فيها مواضع لقضاء الحاجة والاغتسال، واقتنى الأطباق والكؤوس الزجاجية، وكان في بحبوحة من العيش، ولم يكن المصطفى عليه السلام كما يصوره البعض بالفقير المُعدم، ولا بالمتقشّف كما تذهب بعض الروايات.
هذا الاندماج الاجتماعي للرسول المُجتبى، في مجتمع أحدث من مجتمعه الأول البسيط، يعني التكيّف مع التحولات، والتسليم بالمتغيرات، وصياغة أدبيات جديدة للتعاملات، خصوصاً أن التركيبة السكانية لأهل المدينة تقوم على (الكوزموبوليتية) الحاضنة جميع المكونات القَبليّة، والعرقية، والدينية، والمدنية، والأقلية، والمُنفتحة بطابعها وطبيعتها على أممية لا حدّ لها؛ ولذا تُعدُّ نموذجاً للتسامح والتعايش والقبول بالمُختلف والمُخالف.
وفي البدء إبان الزمن المكيّ، لم يكن سوى الوحي القرآني معتنياً بالتوحيد، وداعياً بالتي هي أحسن لنبذ الشرك، وفاتحاً آفاق التأمل في الكون، ومتيحاً عقد المقارنات العقلية، وطرح المقاربات بين نظام الكواكب والأفلاك وحياة البشر اليومية، فيما غدا التناول القرآني في طيبة الطيبة أوسع وأشمل مسلطاً الضوء على نشاط اجتماعي وإنساني مدني، ومقنناً سبل المقايضات، وطريقة التعاملات، وآليات العلاقات.
ومن يتتبع تاريخ الإسلام، قبل استقصاء تاريخ المسلمين، سيتيقن بأن من خصائص الدِّين (المرونة) والاعتداد بالواقع، ومحاولة الاحتواء دون عِداء، فالحقبة المكيّة على ما كانت عليه من سريّة الدعوة والعبادة، لم تستمر على نفس منهجيتها، بل تمرحلت، ولم تجمد ولم تتعصب، واعتمدت مساراً متجدداً، فتغير نوع الطعام والشراب واللباس، وأواني الطبخ والأكل، كما أن أعراف الناس وعاداتهم في (طيبة) بحكم الطبيعة الزراعية الصناعية تختلف عن طبيعة مكة التجارية الروحية.
انتقل النبي عليه الصلاة والسلام من مكة، ولم ينقل معه عادات وأعراف وثقافة المكيّين، بل استوعب المستجدات في المدينة، وقبَل بها، تغيّر وغيّر، وتأثّر وأثّر، على مستوى الاقتصاد وآليات السوق، وكذا في الشأن الاجتماعي، وما ذاك إلا دليل ناصع على رفض الجمود والتعصب، لما كان وما هو كائن، ولم يفرض قناعاته بما لديه وما بين يديه، وإنما افترض أن الواقع أقوى من وافدٍ عليه، فكان التدرج وكانت المهادنة والمداراة.
لم يكن هناك فقه ولا فقهاء، بل مرجعيّة موحدة تتمثل في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم المرتبطة بالوحي، إلا أنه بوفاة مصدر التشريع الأوحد، وبدء المحاكاة لمجتمعات الجوار، ودخول أصحاب ديانات وثقافات في الإسلام، وطرح أسئلة جدلية، ونشوء مدرسة الكلام، وعلو شأن القضاء، وفتح المسجد الحرام، والمسجد النبوي أبوابه للراغبين في العِلم، كلّ ذلك أسهم في تعدد وتجدد المصادر الفقهية، القائمة على الفهم العقلي، وبما أن النص واحد، والفهوم متعددة، فقد حضر الاجتهاد، ما نتج عنه اختلاف الفقهاء، بحكم مدلول اللفظ وضعاً ومعنى، ومقتضى لوازم الخطاب ودلالة اللزوم، فالفقه مرتبط عبر التاريخ بفهم النصوص، والاستنباط من دلالات الألفاظ، فقهاً آنياً يخدم دين الناس ودنياهم؛ ولذا كان للفقه الإسلامي تجليات عملية متفاعلة مع حركة المجتمع.
يستند الفقه في الإسلام إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية، التي جاءت بلغة العرب، واللغة كما في المعاجم تعطي اللفظ الواحد عشرات المعاني، ومن المعاني تُستخرج الأحكام، وللأحكام علل، ومصالح، معتبرة وهي: التي اعتبرها الشرع وجاء النص بها، وملغاة وهي: التي ألغاها الشرع وجاء النص بإلغائها، ومرسلة وهي: التي لم يأتِ النص عليها لا بإلغاء ولا بإقرار، ولتقدير المصالح المرسلة مرجعية مركزية تتمثل في أفراد ثقات، أو مؤسسات مستقلة، وطالما أنّ إمكانية الاشتقاق من الجذر اللغوي قائمة إلى اليوم، فالمعاني والدلالات غير متناهية، واللامتناهي ينتج فهوماً متجددة غير متناهية.
بالطبع لا يختلف الفقه عن أي علم أو معرفة، إن وجدت حاضنة تُعنى بها ظهرت، وانتشرت، وصمدت، وإن كانت عُرضةً للقمع والكبت، تختفي وتتلاشى تدريجياً، فالسُّلطة، فاعل رئيس في بناء وتعميم أي مذهب، بالدعم والمعونة وتقريب وتقدير الفقهاء، كما أنها قد تكون سبباً في زواله بإهماله، وتجاوزه.
وما دامت المرجعية بعد زمن النبوة غير ثابتة ومتحوّلة، والتحديث والتجدد من خصائص الفقه، فما كان صالحاً في زمن ربما لا تستمر صلاحيته لزمن تالٍ، كون المرجعية ترى أن هناك ما هو أصلح، وسنة التطوّر، ومعطيات التقدم العلمي، وأعراف المُجتمعات عامل مؤثر في الفقه، وفضاء المجتمع الأحدث، محفزٌّ لتلاميذ شيوخ راحلين للأخذ بالأجد من الرؤى والأفهام في سبيل المواكبة للمستجدات والنوازل.
ونتساءل، كيف أسّست المدارس الفقهية مذاهبها، هل قال الإمام مالك -رحمه الله- إنه سيؤسس مذهباً مالكياً، أو الشافعي، أو أبو حنيفة، أو أحمد، أو الأوزاعي، أو داوود الظاهري؟ ما أعلمه أنهم، درّسوا وألفوا، واعتنى تلاميذهم، بتراثهم، فوثقوه ونقلوه وعمموه على الأمصار، فعاش منها ما عاش بالحظوة والقُرب، واندثر منه ما اندثر، تحت طائلة الموقع الجغرافي النائي، أو لعدم اعتماده في نطاق الإمارة، أو لتعلق تلاميذه بمذهب آخر، أو بسبب الصراع بين أهل الحديث وأهل الرأي. ولعل من خصائص المذهب الحنبلي أنه كان ولا يزال مذهباً فقهيّاً عقديّاً.
وأعودُ لأؤكد أن أي باحث فقهي موضوعي، سيقف مع فكرة الشيخ صالح بن عواد المغامسي، القائمة على الحاجة لمشروع فقهي معاصر وحضاري، يتخذ من الأنسنة عنواناً، وينأى عن العنصرية والتعنصر، لكن ربما تسرع شيخنا في طرحه، ما دفع البعض ليكونوا ضده كونه أعلن فكرة لم تتمخّض، فأوقعته في حيرة من أمره، ما أوقف مشروعه في منتصف طريق، إقباله عليه ربما يؤذيه، وتراجعه عنه سيحرجه، فالمجتمعات العربية والإسلامية لديها حساسية من فكرة التجديد، وقديماً يقولون في الأمثال «لا تقُلْ بُراً حتى توكيه».
هذا الاندماج الاجتماعي للرسول المُجتبى، في مجتمع أحدث من مجتمعه الأول البسيط، يعني التكيّف مع التحولات، والتسليم بالمتغيرات، وصياغة أدبيات جديدة للتعاملات، خصوصاً أن التركيبة السكانية لأهل المدينة تقوم على (الكوزموبوليتية) الحاضنة جميع المكونات القَبليّة، والعرقية، والدينية، والمدنية، والأقلية، والمُنفتحة بطابعها وطبيعتها على أممية لا حدّ لها؛ ولذا تُعدُّ نموذجاً للتسامح والتعايش والقبول بالمُختلف والمُخالف.
وفي البدء إبان الزمن المكيّ، لم يكن سوى الوحي القرآني معتنياً بالتوحيد، وداعياً بالتي هي أحسن لنبذ الشرك، وفاتحاً آفاق التأمل في الكون، ومتيحاً عقد المقارنات العقلية، وطرح المقاربات بين نظام الكواكب والأفلاك وحياة البشر اليومية، فيما غدا التناول القرآني في طيبة الطيبة أوسع وأشمل مسلطاً الضوء على نشاط اجتماعي وإنساني مدني، ومقنناً سبل المقايضات، وطريقة التعاملات، وآليات العلاقات.
ومن يتتبع تاريخ الإسلام، قبل استقصاء تاريخ المسلمين، سيتيقن بأن من خصائص الدِّين (المرونة) والاعتداد بالواقع، ومحاولة الاحتواء دون عِداء، فالحقبة المكيّة على ما كانت عليه من سريّة الدعوة والعبادة، لم تستمر على نفس منهجيتها، بل تمرحلت، ولم تجمد ولم تتعصب، واعتمدت مساراً متجدداً، فتغير نوع الطعام والشراب واللباس، وأواني الطبخ والأكل، كما أن أعراف الناس وعاداتهم في (طيبة) بحكم الطبيعة الزراعية الصناعية تختلف عن طبيعة مكة التجارية الروحية.
انتقل النبي عليه الصلاة والسلام من مكة، ولم ينقل معه عادات وأعراف وثقافة المكيّين، بل استوعب المستجدات في المدينة، وقبَل بها، تغيّر وغيّر، وتأثّر وأثّر، على مستوى الاقتصاد وآليات السوق، وكذا في الشأن الاجتماعي، وما ذاك إلا دليل ناصع على رفض الجمود والتعصب، لما كان وما هو كائن، ولم يفرض قناعاته بما لديه وما بين يديه، وإنما افترض أن الواقع أقوى من وافدٍ عليه، فكان التدرج وكانت المهادنة والمداراة.
لم يكن هناك فقه ولا فقهاء، بل مرجعيّة موحدة تتمثل في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم المرتبطة بالوحي، إلا أنه بوفاة مصدر التشريع الأوحد، وبدء المحاكاة لمجتمعات الجوار، ودخول أصحاب ديانات وثقافات في الإسلام، وطرح أسئلة جدلية، ونشوء مدرسة الكلام، وعلو شأن القضاء، وفتح المسجد الحرام، والمسجد النبوي أبوابه للراغبين في العِلم، كلّ ذلك أسهم في تعدد وتجدد المصادر الفقهية، القائمة على الفهم العقلي، وبما أن النص واحد، والفهوم متعددة، فقد حضر الاجتهاد، ما نتج عنه اختلاف الفقهاء، بحكم مدلول اللفظ وضعاً ومعنى، ومقتضى لوازم الخطاب ودلالة اللزوم، فالفقه مرتبط عبر التاريخ بفهم النصوص، والاستنباط من دلالات الألفاظ، فقهاً آنياً يخدم دين الناس ودنياهم؛ ولذا كان للفقه الإسلامي تجليات عملية متفاعلة مع حركة المجتمع.
يستند الفقه في الإسلام إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية، التي جاءت بلغة العرب، واللغة كما في المعاجم تعطي اللفظ الواحد عشرات المعاني، ومن المعاني تُستخرج الأحكام، وللأحكام علل، ومصالح، معتبرة وهي: التي اعتبرها الشرع وجاء النص بها، وملغاة وهي: التي ألغاها الشرع وجاء النص بإلغائها، ومرسلة وهي: التي لم يأتِ النص عليها لا بإلغاء ولا بإقرار، ولتقدير المصالح المرسلة مرجعية مركزية تتمثل في أفراد ثقات، أو مؤسسات مستقلة، وطالما أنّ إمكانية الاشتقاق من الجذر اللغوي قائمة إلى اليوم، فالمعاني والدلالات غير متناهية، واللامتناهي ينتج فهوماً متجددة غير متناهية.
بالطبع لا يختلف الفقه عن أي علم أو معرفة، إن وجدت حاضنة تُعنى بها ظهرت، وانتشرت، وصمدت، وإن كانت عُرضةً للقمع والكبت، تختفي وتتلاشى تدريجياً، فالسُّلطة، فاعل رئيس في بناء وتعميم أي مذهب، بالدعم والمعونة وتقريب وتقدير الفقهاء، كما أنها قد تكون سبباً في زواله بإهماله، وتجاوزه.
وما دامت المرجعية بعد زمن النبوة غير ثابتة ومتحوّلة، والتحديث والتجدد من خصائص الفقه، فما كان صالحاً في زمن ربما لا تستمر صلاحيته لزمن تالٍ، كون المرجعية ترى أن هناك ما هو أصلح، وسنة التطوّر، ومعطيات التقدم العلمي، وأعراف المُجتمعات عامل مؤثر في الفقه، وفضاء المجتمع الأحدث، محفزٌّ لتلاميذ شيوخ راحلين للأخذ بالأجد من الرؤى والأفهام في سبيل المواكبة للمستجدات والنوازل.
ونتساءل، كيف أسّست المدارس الفقهية مذاهبها، هل قال الإمام مالك -رحمه الله- إنه سيؤسس مذهباً مالكياً، أو الشافعي، أو أبو حنيفة، أو أحمد، أو الأوزاعي، أو داوود الظاهري؟ ما أعلمه أنهم، درّسوا وألفوا، واعتنى تلاميذهم، بتراثهم، فوثقوه ونقلوه وعمموه على الأمصار، فعاش منها ما عاش بالحظوة والقُرب، واندثر منه ما اندثر، تحت طائلة الموقع الجغرافي النائي، أو لعدم اعتماده في نطاق الإمارة، أو لتعلق تلاميذه بمذهب آخر، أو بسبب الصراع بين أهل الحديث وأهل الرأي. ولعل من خصائص المذهب الحنبلي أنه كان ولا يزال مذهباً فقهيّاً عقديّاً.
وأعودُ لأؤكد أن أي باحث فقهي موضوعي، سيقف مع فكرة الشيخ صالح بن عواد المغامسي، القائمة على الحاجة لمشروع فقهي معاصر وحضاري، يتخذ من الأنسنة عنواناً، وينأى عن العنصرية والتعنصر، لكن ربما تسرع شيخنا في طرحه، ما دفع البعض ليكونوا ضده كونه أعلن فكرة لم تتمخّض، فأوقعته في حيرة من أمره، ما أوقف مشروعه في منتصف طريق، إقباله عليه ربما يؤذيه، وتراجعه عنه سيحرجه، فالمجتمعات العربية والإسلامية لديها حساسية من فكرة التجديد، وقديماً يقولون في الأمثال «لا تقُلْ بُراً حتى توكيه».