-A +A
صدقة يحيى فاضل
تقسم حكومات العالم الحالية إلى نوعين رئيسين: النوع التمثيلي والنوع غير التمثيلي. الحكومات التمثيلية هي الحكومات التي تمثل شعوبها. أما غير التمثيلية فهي الحكومات التي تفرض على شعوبها، والتي كثيراً ما تكون غير مقبولة من قبل هذه الشعوب، ولكن «الإكراه» -وربما الدعم الخارجي- هو الذي يضمن بقاءها واستمرارها. وهي تقسم إلى حكومات فرد، وحكومات قلة، وحكومات مختلطة.

وحكومة القلة، تعنى: وجود قلة قليلة من الشعب تستأثر بكل السلطة، بفروعها الثلاثة: التشريع، التنفيذ، القضاء. وهذه القلة غالباً ما تكون عسكرية، أو دينية، أو ارستقراطية...إلخ. وأكثر حكومات القلة انتشاراً في هذا العصر هي حكومات القلة العسكرية.. فعدد العسكر، مهما كبر، لا يمثل إلا أقلية قليلة من الشعب. وكثيراً ما يسيطر الجيش وقادته (بطريق مباشر أو غير مباشر) على مقاليد الأمور في البلاد المعنية، ويحكم ويأمر وينهى، وأحياناً بقانون «الطوارئ»، بعد تجميد العمل بالدستور. ويتم الحكم بالبذة العسكرية، التي كثيراً ما تستبدل بالزي المدني، وتستتر خلفه، تمويهاً.


وما زالت الديكتاتوريات العسكرية تعتبر أكثر الديكتاتوريات فشلاً وبطشاً وعنفاً تجاه شعوبها، لأنها تمتلك وسائل الإكراه. وفى العصر الحديث، كثرت الانقلابات العسكرية، واستيلاء العسكر على السلطة، خاصة في العالم النامي. وشهدت قارات أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، الكثير من الانقلابات، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين الماضي. ولكنها خفّت منذ بداية القرن الواحد والعشرين. وكان المجتمع الدولي، وما زال، يرفض الانقلابات العسكرية، وتسلط العسكر، إلا في حالات مشبوهة.

****

وكثيراً ما يستولي الجيش على السلطة عبر الانقلاب على الحكومة القائمة، سواء كانت شرعية، أو مشكوكاً في شرعيتها. ويتمثل الجيش في قادته الكبار، الذين قد يشكلون مجلساً حاكماً منهم (المجلس العسكري) يمارس الحكم «مؤقتاً»، سرّاً وعلناَ. وكثيراً ما ينفرد قائد معين بالسلطة، مؤسساً حكماً عسكرياً طويل الأمد، بعد تهميش واستبعاد بقية زملائه القادة، أو تصفية بعضهم. وفي كثير من الحالات، يقوم الجيش، ممثلاً بقائده أو قادته، بإجراء بعض الشكليات الديمقراطية، كعمل انتخابات رئاسية وبرلمانية، يتحكم الجيش في نتائجها، ليظهر النظام بقالب «مدني»، يخفي ديكتاتورية العسكر ويبقها في الظل.

****

ولا شك أن هناك جيوشاً وطنية قامت بانقلابات ضد حكومات فاسدة وظالمة. وتولت السلطة مؤقتاً. ثم أعادت صياغة النظام السياسي، وأجرت انتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة... وسلّمت السلطة لمن تم انتخابهم، وعادت مشكورة إلى ثكناتها، مكانها الطبيعي. فالوضع الأصح هو أن يتفرغ الجيش للدفاع عن الوطن، ويخضع العسكر للقيادة المدنية الشرعية، وهو الأمر الذي تؤكد عليه أغلب الدساتير. ذلك النوع من الجيوش يحمد له انضباطه، ومهنيته، وحرصه على الدفاع عن حياض وطنه ضد كل ما يمس بلاده بسوء أو ظلم، دون التطلع للتسلط، كهدف شخصي. ولكن هذا النوع من الجيوش أضحى نادراً في العالم الثالث. وإن وجد، دخل تاريخ بلاده من أوسع الأبواب. إذ يشار إليه، عندئذ، بأنه يمثل نموذج «القلة الديكتاتورية المصلحة».

ولكن كثيراً من قادة العسكر ثبت أنهم طلاب سلطة ونفوذ. إذ إنهم يقومون بانقلابات لا تهدف إلى تخليص وطنهم من الظلم والفساد، بقدر ما تهدف للهيمنة على السلطة، والسيطرة على مقاليد الحكم في بلادهم، سواء بوجه عسكري سافر، أو برداء مدني، وعصى عسكرية. وهؤلاء يؤسسون لديكتاتوريات قمعية متسلطة، تمارس كل صنوف التنكيل ضد كل من يعارض تسلطها، أو تسلط قائدها، أو قادتها.

يبدأ الجيش تحركه، وتدخله في السياسة، بانقلاب يقوده أحد قادته. وبعد الاستيلاء على السلطة، يقوم ذلك القائد باستبعاد منافسيه من القادة الآخرين، أو حتى زجهم بالسجون، لينفرد هو بالحكم. ولإضفاء «شرعية» (كاذبة /‏‏ مخادعة) على حكمه، يقوم – كما أشرنا – بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، غالباً ما تكون وهمية، وتحت إشراف كامل للجيش، وذراعه الأيمن قوى الأمن الداخلي. ويرشح نفسه، و«يفوز» بالرئاسة، ويصبح رئيساً، ولديه برلمان طوع بنانه... لأنه يختار أعضاءه انتقاء. وينسى الانقلاب، وتظهر الدولة المعنية بقالب مدني مخادع.

****

وكثيراً ما يحتاج ذلك الرئيس العسكري إلى دعم أجنبي، من قبل القوى الاستعمارية الدولية، التي تتربص لتقديم الدعم المطلوب، مقابل رهن سياسة الدولة التي يسيطر عليها، أو جزء منها، لديها، حتى وأن تعارضت مع مصلحة بلاده. وذلك ثمن استقوائه بتلك القوى، ضد معارضيه الكثر غالباً. يقول علماء السياسة: إن أي ديكتاتور عسكري غالباً ما يحتاج إلى دعم خارجي قوى، كي يستمر في السلطة. وهذا الدعم لا يقدم له دون ثمن باهظ ومهين، تدفعه بلاده.

وتقوم القوى الاستعمارية الدولية، التي تدعي حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، بدعم وتأييد ومداهنة ديكتاتوريات عسكرية، تمارس أفعالاً يندى لها جبين الإنسانية. إذ يشير التاريخ السياسي العالمي إلى أن معظم الحكومات العسكرية استندت على دعم استعماري خارجي، وكانت وبالاً على شعوبها، وغيرهم. ويكاد يجمع علماء السياسة، في كل مكان، على أن تدخل العسكر في السياسة يفسدها غالباً. لذلك، تمنع معظم دول العالم ترشح العسكري لأي منصب سياسي عالٍ، طالما هو في الخدمة العسكرية. ثبت أن معظم العسكريين يفشلون عندما يتنكرون لمهمتهم الأولى، ودورهم الأساسي في خدمة بلادهم.