-A +A
وفاء الرشيد
كتب المفكر المصري حسن حنفي في علوم الدين، ومنها كان كتاباً بعنوان «من الفناء إلى البقاء»، طالب فيه بالخروج من طلب الفناء إلى مطلب البقاء الذي هو بطبيعة الحال حاجة ملحة للمسلم في العصر الحالي، طالب حنفي بالانعتاق من أسر التخلف والانحطاط إلى آفاق التقدم والتطور والبناء، فنحن لم يخلقنا الله لنفنى! ومن يفكر بالفناء فقط فهو روح أنانية برأيي وظفت حتى الدين لمصالحها..

التدين الحقيقي هو أبعد بكثير من التجربة الدينية التي يعيشها البعض منكم، وأبعد من تسجيل النقاط لنفوز بالجوائز في جنة الخلد في طريقنا إلى الله.. فبكتاب «أنواع التجربة الدينية» The Varieties of Religious Experience، يذهب الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وليام جيمس إلى أن الظاهرة الدينية وإن كانت لا تخضع للتحليل العقلي والبرهان العلمي، إلا أن لها طرق تقويمها الخاصة بها. هذه الطرق تتركز أساساً في ما يسميه بخصوبة أو ثراء آثارها العملية على السلوك الفردي والجماعي، وما توفره من آفاق دلالية ومعرفية في إطار الممارسة الطقوسية والتجربة المعيشية.. أي أن التدين يقاس بالنتائج وليس بالتصرفات، بالآثار التي يعكسها على من حوله وليس بالتأثير..


ومع أن جيمس لم يكن متديناً، إلا أنه أدرك أن للتجربة الدينية قوانينها الخاصة وطرقها الذاتية، واعتبر أنه من الخطأ أن نقومها من منظور المعايير العلمية التي تتعلق بالطبيعة، أو المقاييس العقلانية المنطقية التي تقوم عليها المعارف والأفكار الاجتماعية.

المهم في التجارب التي نعيشها اليوم ليس النظريات والمعتقدات، فلا أحد بإمكانه الجزم بصحتها أو بطلانها لكونها تفتقد إلى قواعد التحقق التجريبي، كما أنه لا معنى لحصر الحقيقة والقيمة في النظريات والقوانين العلمية وهي محصورة في نطاق ضيق محدود. وما دام أغلب البشر متدينين بالطبع أو الوراثة أو التقليد أو الاختيار، فلا بد من الفصل بين الاعتقادات التي تدفع للقيم الإيجابية وللعمل المفيد للمجتمع والاعتقادات الضارة التي تكرس السلبية والخرافة والانقياد الأعمى.

هناك فروق كبيرة في تجربتنا الدينية يجب أن نميز بينها، فهناك فرق كبير بين إسلام العقل والعمل والإنتاج وإسلام الجمود والتحجر والهامشية.

يكفينا هنا حديث أبو هريرة القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه:

قال قال رسول الله ﷺ: إن الله يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك، وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي».

هكذا يظهر أن الطريق إلى الله يمر حتماً بالإنسان، وأن التجربة الدينية هي في عمقها تجربة إنسانية كثيفة وصادقة.