-A +A
وفاء الرشيد
في سنة 1930 كتب الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال كتابه الشهير «تجديد الفكر الديني في الإسلام»، مركزاً فيه على تجديد التجربة الدينية، من منظور فلسفي روحاني يختلف عن كل كتابات مفكري الإصلاح والنهضة الذين انحصر اهتمامهم في تحديث وتطوير المجتمعات المسلمة وإعادة بناء الدولة.

ما يعنيه إقبال بالتجربة الدينية هو الشعور القوي بالحضور الإلهي في النفس والوعي، الدافع للسلوك الأخلاقي الرفيع، وهو طاقة فعالة تتجاوز حيز المعرفة العقلية الباردة والمعتقدات الميتافيزيقية التي يهتم بها عادة الفلاسفة وعلماء الكلام.


يقدم إقبال تأويلاً جديداً للتصوّف الإسلامي، بالانتقال من فكرة الذوبان والانمحاء في المطلق إلى فكرة الصيرورة والحركة التي اعتبرها العمق الحقيقي للإسلام من حيث قيمه الوجودية والإنسانية.

لم يتأثر الفكر الإسلامي الحديث بهذه الأفكار الهامة، بل غلبت عليه التصورات الأيديولوجية والسياسية التي لم تعط أهمية كبرى للجوانب الروحانية في الدين.

كان العلامة الهندي الكبير وحيد الدين خان يقول إن أكبر مصيبة مسّت الفكر الإسلامي المعاصر هي ما سماه «التفسير السياسي للدين» الذي يتعارض كليّاً مع نهج سلف الأمة وأعلام التراث والفقه الذين أكدوا أن الدين هو في جوهره علاقة تعبد بين الله وخلقه والغرض منه هو هداية الناس إلى الخير والطريق القويم والخلاص في الآخرة.

ومن هنا فإن حقيقة الإسلام الجوهرية هي السلم والسلام والابتعاد عن الحرب والعنف، ولم تشرع المواجهة المسلحة إلا لرد العدوان أو الفتنة أو تحرير إرادة الناس ليختاروا طواعية الاعتقاد الذي يريدون.

يبيّن وحيد الدين خان أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقاتل إلا ثلاث مرات خلال ثلاث وعشرين سنة من الرسالة، بما لا يتجاوز 36 ساعة فقط، بينما يذهب دعاة التطرّف اليوم إلى الحرب والعنف، وكأن الدين دعوة للقتال لا طريقاً إلى التعارف والقسط والمودة بين البشر كما هو صريح وواضح في الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.

ما نستشفه من أفكار محمد إقبال ووحيد الدين خان هو أن تجديد الفكر الديني في الإسلام لا يمكن أن يتم إلا من خلال استكشاف الآفاق الروحية والأخلاقية الرحبة في التجربة الدينية كما تبلورت في النصوص المقدسة والتراث الفلسفي والصوفي الثري الذي لا يزال بحاجة إلى القراءة الثاقبة والتأويل الخصب.

قبل سنوات كتب المفكر الفرنسي المسلم أريك جوفروا كتاباً هاماً صدرت ترجمته العربية بعنوان «المستقبل للإسلام الروحاني»، وضح فيه أن رسالة الإسلام في القرن الجديد لا يمكن أن تكون إلا روحانية، بما يعني ضرورة التخلي عن قشور التديّن التي لا تدخل في صميم وثوابت التجربة الدينية، بل هي في غالبها من التقاليد والأفهام المتجاوزة. الإنسان «ابن لحظته» كما قال الصوفية الأوائل، ولذا عليه أن يتوجه إلى الله في طريق المستقبل والتجدد. فالذين يبحثون عن رسالة الإسلام في الماضي لا يدركون أنها حاضرة أيضاً في المستقبل، تتجدد في كل آنٍ ويكتشف فيها الإنسان في كل مرة معاني غير مسبوقة. ورحم الله الجرجاني كان يقول إن الدهر هو جلاء الحضرة المطلقة.