-A +A
بشرى فيصل السباعي
من يطالع تاريخ العالم الحديث يدرك أنه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية لم تكن هناك دولة بالعالم أشد قسوة وتوحشاً وهمجية في سياساتها بشكل يزيد حتى على النازية أكثر من اليابان وغالب المواد التاريخية عن اليابان تصعب مشاهدتها لأنها كلها فظائع مروعة بشكل استثنائي ولذا لا تزال حتى الآن هناك حزازيات كامنة لدى الشعوب المتضررة كالصين تجاه اليابان، ومن شارك فيها عندما يدلي بشهادته في البرامج الوثائقية ليس لديه أدنى شعور بالخجل والندم والعار لأن هذا النمط وثقافته كانت السائدة والكل كان يفعلها ويفتخر بها، فكيف تمكنت اليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من التحول من تلك الثقافة الصادمة إلى أن أصبحت حسب كل قوائم رصد سلوك الشعوب في العالم الواقعي والافتراضي للإنترنت من أكثر الشعوب لطفاً وأدباً وتهذيباً وتحضراً ومراعاة للآخرين وشعورهم واعتباراتهم؟ فهذا ما أراه يمثّل المعجزة اليابانية الأكبر حتى من المعجزة الاقتصادية والتطور التكنولوجي والصناعي، ومعرفة كيفية تمكنت اليابان من إحداث هذا التحول الثقافي الجذري مهمة بشكل خاص للمجتمعات العربية التي عانت من الفظائع ضمن أحداث الثورات والحروب الأهلية والإرهاب وانتشار العنف الاجتماعي والجنائي، وهذا التحول الياباني يدل على أن الثقافة السائدة تشكّل البشر على صورتها، فمعجزة التحول من العنف إلى اللطف اليابانية حصلت بفضل تغيير الثقافة العامة السائدة عبر كل تجسداتها ومواردها ووسائلها من الخطاب الإعلامي العام والقوانين والأنظمة إلى المناهج الدراسية وفرض التدريب على مثالياتها بشكل عملي وهذا ما جعلها تتجاوز عقبة الخطاب الإنشائي عديم الأثر الذي تقف عنده المناهج والقوانين والأنظمة في كثير من الدول؛ فبدون التطبيق العملي الصارم والتدريب الواقعي منذ الصغر لا تتغلغل تلك المثاليات في عقلية ونفسية الإنسان لتصوغ سلوكياته وأخلاقه فتبقى كالزيت مع الماء مهما خلطت معه تبقى منفصلة عنه وبالتالي مهما حفظ الشخص من نصوص دينية وأخلاقية يبقى لا أثر لها بسلوكه الواقعي ومعاملته وأخلاقه وشخصيته، فالتطبيق الصارم والعملي والواقعي هو ما يجعلها تمتزج وتندمج، ومن الحكمة أن تتم الاستفادة من تجارب الآخرين الناجحة عبر دراسة تطبيقاتهم والاقتداء بها، وما نحتاج لتعلمه ليس المثاليات فهي معروفة للجميع إنما كيفية تحويلها من خطاب إنشائي إلى واقع عملي وسلوك عام سائد، وهذا التحول أساسي لنجاح غالب الخطط الاقتصادية الحديثة التي تعتمد على سبيل المثال على جذب السياحة، فالسبب الرئيسي لكساد السياحة في كثير من الدول هو سلوك أهلها غير اللطيف مع الآخرين مما يجعل تجربة السياح منفرة عن ذلك البلد مهما كان جمال معالمه السياحية وكمال مرافقه الخدمية، كما أن شيوع السلوك غير اللطيف يقصي تلقائياً المواطنين عن الكثير من الوظائف التي تتطلب السلوك اللطيف والمراعي للعملاء أو تتطلب العمل كفريق، وهذا فوق الخسائر المادية الناتجة عن السلوكيات السيئة للناس والتي تصل لدرجة القتل والتخريب للممتلكات الخاصة والعامة على شيء تافه كالتنافس على موقف سيارات أو الاستعراض بالهمجية، فهناك نمط سائد بصنع المحتوى السلبي لروّاد مواقع التواصل قائم على التنافس بالهمجية وسوء الأدب والتصرفات الصادمة، وهي تنفر كل من يرى مثل ذلك المحتوى عن زيارة البلد لأنها تعطي أسوأ انطباع عنه وعن أهله، ولذا كثير من الدول تفرض عقوبات على مثل هذا المحتوى السيئ بسبب أن له تبعات واقعية سلبية تتجاوز إفساد الذوق العام، فوق أن له أخطاراً على من يقوم به وكثير من المراهقين ماتوا بسبب قيامهم بتحديات تقليد السلوك السيئ ببعض مواقع التواصل، لذا لابد من وضع عقوبات صارمة عليها.