كتبت في مقال سابق عن الأمينة العامة لمركز الملك فيصل صاحبة السمو الملكي الأميرة مها الفيصل. في هذه المقالة سأورد شاهداً على سعة أفقها ونفاذ بصيرتها. لكن دعوني أبدأ «السالفة» من بدايتها.
حينما كنت أستاذاً في قسم الدراسات الاجتماعية في كلية الآداب في جامعة الملك سعود تقدمت بمشروع لجمع الشعر النبطي من مصادره الشفهية. كانت رؤيتي وراء ذلك المشروع هو حسم الخلاف في مسألة مصداقية الشعر الجاهلي بمنهجية علمية عملية عن طريق البحث الميداني للتحقق مما إذا كانت عملية النظم عملية مستقلة تسبق الرواية أم أن كل رواية للقصيدة هي أشبه بعملية نظم ارتجالي مستقلة ومختلفة عما سبقها وما سيأتي بعدها من الروايات، كما يقول مارغوليوث عن شعر الملاحم الإغريقية وقلده طه حسين بتطبيق الفكرة على الشعر الجاهلي. كنت وما زلت أرى أن الشعر النبطي هو امتداد الشعر الجاهلي وما ينطبق على هذا ينطبق على ذاك. والأهم من ذلك هو أهمية مثل هذا الشعر كوثيقة سياسية واجتماعية وثقافية ولغوية، خصوصاً وأن اللقاء مع الرواة سيتيح الفرصة لتقصي الأسباب والسياقات السياسية والبواعث الاجتماعية والشخصية الباعثة على نظم القصيدة.
لم تكن الموافقة على المشروع أمراً سهلاً خصوصاً أن توقيته جاء متزامناً مع ذروة الصحوة الدينية وشيوع فكرة أن «حصوننا مهددة من الداخل» وأن تشجيع دراسة الثقافات الشعبية واللغات المحلية مؤامرة استعمارية تهدف لتفتيت الأمة العربية والقضاء على الفصحى، لغة القرآن الكريم. كان الهجوم الإعلامي على شخصي آنذاك شرساً بحكم اهتمامي بالثقافة الشعبية واللغة المحلية. ومن الطرف أنه خلال احتدام النقاش حول مشروعي في مجلس كلية الآداب -بحكم أن البعض اعتبر مشروعي تشجيعاً للعامية والمناطقية- ضاق الزميل الدكتور عبدالعزيز المانع ذرعاً بعبثية النقاش وقال لأعضاء المجلس ممازحاً «دعوا الصويان يجمع الشعر العامي في أشرطة ثم نقوم نحن بحرق الأشرطة لنقضي بذلك على العامية». إلا أن المجلس في الأخير وافق على المشروع.
أخذ مني تنفيذ المشروع عدة سنوات كانت من أجمل سنوات عمري جبت خلالها صحراء الجزيرة العربية واستمعت لفصحاء البدو ممن هم على الفطرة ونقاء السريرة يروون من الذاكرة أحلى السوالف وأجمل الأشعار بلهجتهم البدوية القح، وجمعت فيها مئات الساعات من المادة الشعرية والسوالف وأنساب القبائل.
بعد الانتهاء من المشروع أودعت الأشرطة في أحد مكاتب قسم الدراسات الاجتماعية، وبدأت بفهرستها وتفريغها كتابياً بلهجاتها المحلية، وقد أخذ مني ذلك جهداً ووقتاً وتحملاً لا يعلم به إلا الله. هذا التفريغ هو الذي نتج عنه لاحقاً كتابي «أيام العرب الأواخر» وكتابي «الصحراء العربية: شعرها وثقافتها عبر العصور».
بعد فراغي من مهمتي الميدانية بفترة قصيرة طلب صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز إعارتي من الجامعة للعمل في «دار الدائرة للنشر» على مشروعين ضخمين مولهما سموه استغرق تنفيذهما عدداً من السنين هما «الملك عبدالعزيز: سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية» في ١٩ مجلداً، و«الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية» في ١٢ مجلداً. بيت القصيد هنا أنني لما عدت إلى قسم الدراسات الاجتماعية بعد سنوات من الإعارة وجدت الأشرطة مطروحة على الأرض ومبعثرة وبعضها تالف. هكذا تتعامل جامعاتنا -للأسف- مع البحوث العلمية الرصينة والأعمال الميدانية الجادة. لكن لحسن الحظ كنت أحتفظ بنسخة أخرى فرغتها كتابة وتمكنت من إصدارها لاحقاً في كتابي «أيام العرب الأواخر»، كما اعتمدت عليها في كتابي الآخر «الصحراء العربية: شعرها وثقافتها عبر العصور». وبالمناسبة، أعتقد في قرارة نفسي أن أحد هذين العملين هو العمل الذي يستحق «جائزة الشيخ زايد» وليس كتابي «ملحمة التطور البشري».
بيت القصيد هنا أنه بعد أن تقاعدت من الجامعة طلبني مركز الملك فيصل للعمل متعاوناً معهم. وكان صلة الوصل الزميل العزيز سعادة الدكتور سعود السرحان الذي كان حينها مديراً للمركز. وأجرت الأميرة مها الفيصل معي مقابلة مطولة انتهت بقبولي متعاوناً مع المركز. خلال لقائي مع سمو الأميرة شعرت لأول مرة في حياتي بالسعودية أنني أجلس أمام شخص يحترم شخصي وتخصصي ويحترم مجالي العلمي وإنجازاتي البحثية وجهودي التوثيقية. ما لقيته من حرارة استقبال من سموها وإطراء لما جلبت لها من أعمالي الأكاديمية ومشاريعي التوثيقية جعلني أسترد ثقتي بنفسي وبكفاءتي العلمية بعد أن حاول ذلك الجيل الذي عاصرته من صبيان الصحوة تحقيري والحط من شأني كباحث أكاديمي.
رحّبت الأميرة بي للعمل مستشاراً في المركز. وباقتراح مني ومباركة من سموها أنشأ المركز وحدة أطلقنا عليها مسمى «وحدة الذاكرة السعودية». جمعنا في هذه الوحدة أشرطتي المسجلة وأضفنا لها أشرطة الباحث الهولندي مارسيل كوربرسهوك والباحثة الأمريكية أليسون ليريك.
وقد وظفت سمو الأميرة في وحدة الذاكرة السعودية باحثين يعملون على ترقيم الأشرطة وترتيبها وفهرستها. ومحتوياتها الآن متاحة للباحثين الأكاديميين في مجال اللهجات ومجال التاريخ الشفهي والتاريخ القبلي للمملكة العربية السعودية، وكذلك عادات وسلوم القبائل وما دار بينهم من نزاعات على الماء والمرعى. وفهرسة الأشرطة تجعل من السهل على الباحث أن يجد فيها ما يبحث عنه. بجهد وتفهم سمو الأميرة مها الفيصل أنشأ المركز وحدة بحث فريدة لا مثيل لها إلا ربما في جامعة ولاية إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية أو جامعة أمستردام في هولندا.
ولمن يريد التعرف بشكل أدق على محتويات الذاكرة السعودية فالذاكرة لها موقع على الإنترنت، وفي مطلع كل أسبوع يرفع الموقع عينة من محتوياته الصوتية. وعلى من يريد معرفة المزيد عن الوحدة يمكنه الرجوع لموقعها والاستماع للعينات التي ترفعها. ومواد الوحده متاحة للباحثين الأكاديميين وطلاب الدراسات العليا ممن لديهم تزكيات من المشرفين الأكاديميين على رسائلهم.
حينما كنت أستاذاً في قسم الدراسات الاجتماعية في كلية الآداب في جامعة الملك سعود تقدمت بمشروع لجمع الشعر النبطي من مصادره الشفهية. كانت رؤيتي وراء ذلك المشروع هو حسم الخلاف في مسألة مصداقية الشعر الجاهلي بمنهجية علمية عملية عن طريق البحث الميداني للتحقق مما إذا كانت عملية النظم عملية مستقلة تسبق الرواية أم أن كل رواية للقصيدة هي أشبه بعملية نظم ارتجالي مستقلة ومختلفة عما سبقها وما سيأتي بعدها من الروايات، كما يقول مارغوليوث عن شعر الملاحم الإغريقية وقلده طه حسين بتطبيق الفكرة على الشعر الجاهلي. كنت وما زلت أرى أن الشعر النبطي هو امتداد الشعر الجاهلي وما ينطبق على هذا ينطبق على ذاك. والأهم من ذلك هو أهمية مثل هذا الشعر كوثيقة سياسية واجتماعية وثقافية ولغوية، خصوصاً وأن اللقاء مع الرواة سيتيح الفرصة لتقصي الأسباب والسياقات السياسية والبواعث الاجتماعية والشخصية الباعثة على نظم القصيدة.
لم تكن الموافقة على المشروع أمراً سهلاً خصوصاً أن توقيته جاء متزامناً مع ذروة الصحوة الدينية وشيوع فكرة أن «حصوننا مهددة من الداخل» وأن تشجيع دراسة الثقافات الشعبية واللغات المحلية مؤامرة استعمارية تهدف لتفتيت الأمة العربية والقضاء على الفصحى، لغة القرآن الكريم. كان الهجوم الإعلامي على شخصي آنذاك شرساً بحكم اهتمامي بالثقافة الشعبية واللغة المحلية. ومن الطرف أنه خلال احتدام النقاش حول مشروعي في مجلس كلية الآداب -بحكم أن البعض اعتبر مشروعي تشجيعاً للعامية والمناطقية- ضاق الزميل الدكتور عبدالعزيز المانع ذرعاً بعبثية النقاش وقال لأعضاء المجلس ممازحاً «دعوا الصويان يجمع الشعر العامي في أشرطة ثم نقوم نحن بحرق الأشرطة لنقضي بذلك على العامية». إلا أن المجلس في الأخير وافق على المشروع.
أخذ مني تنفيذ المشروع عدة سنوات كانت من أجمل سنوات عمري جبت خلالها صحراء الجزيرة العربية واستمعت لفصحاء البدو ممن هم على الفطرة ونقاء السريرة يروون من الذاكرة أحلى السوالف وأجمل الأشعار بلهجتهم البدوية القح، وجمعت فيها مئات الساعات من المادة الشعرية والسوالف وأنساب القبائل.
بعد الانتهاء من المشروع أودعت الأشرطة في أحد مكاتب قسم الدراسات الاجتماعية، وبدأت بفهرستها وتفريغها كتابياً بلهجاتها المحلية، وقد أخذ مني ذلك جهداً ووقتاً وتحملاً لا يعلم به إلا الله. هذا التفريغ هو الذي نتج عنه لاحقاً كتابي «أيام العرب الأواخر» وكتابي «الصحراء العربية: شعرها وثقافتها عبر العصور».
بعد فراغي من مهمتي الميدانية بفترة قصيرة طلب صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز إعارتي من الجامعة للعمل في «دار الدائرة للنشر» على مشروعين ضخمين مولهما سموه استغرق تنفيذهما عدداً من السنين هما «الملك عبدالعزيز: سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية» في ١٩ مجلداً، و«الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية» في ١٢ مجلداً. بيت القصيد هنا أنني لما عدت إلى قسم الدراسات الاجتماعية بعد سنوات من الإعارة وجدت الأشرطة مطروحة على الأرض ومبعثرة وبعضها تالف. هكذا تتعامل جامعاتنا -للأسف- مع البحوث العلمية الرصينة والأعمال الميدانية الجادة. لكن لحسن الحظ كنت أحتفظ بنسخة أخرى فرغتها كتابة وتمكنت من إصدارها لاحقاً في كتابي «أيام العرب الأواخر»، كما اعتمدت عليها في كتابي الآخر «الصحراء العربية: شعرها وثقافتها عبر العصور». وبالمناسبة، أعتقد في قرارة نفسي أن أحد هذين العملين هو العمل الذي يستحق «جائزة الشيخ زايد» وليس كتابي «ملحمة التطور البشري».
بيت القصيد هنا أنه بعد أن تقاعدت من الجامعة طلبني مركز الملك فيصل للعمل متعاوناً معهم. وكان صلة الوصل الزميل العزيز سعادة الدكتور سعود السرحان الذي كان حينها مديراً للمركز. وأجرت الأميرة مها الفيصل معي مقابلة مطولة انتهت بقبولي متعاوناً مع المركز. خلال لقائي مع سمو الأميرة شعرت لأول مرة في حياتي بالسعودية أنني أجلس أمام شخص يحترم شخصي وتخصصي ويحترم مجالي العلمي وإنجازاتي البحثية وجهودي التوثيقية. ما لقيته من حرارة استقبال من سموها وإطراء لما جلبت لها من أعمالي الأكاديمية ومشاريعي التوثيقية جعلني أسترد ثقتي بنفسي وبكفاءتي العلمية بعد أن حاول ذلك الجيل الذي عاصرته من صبيان الصحوة تحقيري والحط من شأني كباحث أكاديمي.
رحّبت الأميرة بي للعمل مستشاراً في المركز. وباقتراح مني ومباركة من سموها أنشأ المركز وحدة أطلقنا عليها مسمى «وحدة الذاكرة السعودية». جمعنا في هذه الوحدة أشرطتي المسجلة وأضفنا لها أشرطة الباحث الهولندي مارسيل كوربرسهوك والباحثة الأمريكية أليسون ليريك.
وقد وظفت سمو الأميرة في وحدة الذاكرة السعودية باحثين يعملون على ترقيم الأشرطة وترتيبها وفهرستها. ومحتوياتها الآن متاحة للباحثين الأكاديميين في مجال اللهجات ومجال التاريخ الشفهي والتاريخ القبلي للمملكة العربية السعودية، وكذلك عادات وسلوم القبائل وما دار بينهم من نزاعات على الماء والمرعى. وفهرسة الأشرطة تجعل من السهل على الباحث أن يجد فيها ما يبحث عنه. بجهد وتفهم سمو الأميرة مها الفيصل أنشأ المركز وحدة بحث فريدة لا مثيل لها إلا ربما في جامعة ولاية إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية أو جامعة أمستردام في هولندا.
ولمن يريد التعرف بشكل أدق على محتويات الذاكرة السعودية فالذاكرة لها موقع على الإنترنت، وفي مطلع كل أسبوع يرفع الموقع عينة من محتوياته الصوتية. وعلى من يريد معرفة المزيد عن الوحدة يمكنه الرجوع لموقعها والاستماع للعينات التي ترفعها. ومواد الوحده متاحة للباحثين الأكاديميين وطلاب الدراسات العليا ممن لديهم تزكيات من المشرفين الأكاديميين على رسائلهم.