عاشت روسيا وتحت أنظار العالم يوماً تاريخياً، لم تكن القريحة السينمائية لتتوقعه حتى في أكثر السيناريوهات إمعاناً في الخيال. تخيل معي عزيزي القارئ قبل أسبوع وأنا أقول لك إن قوة عسكرية سوف تتوجه إلى العاصمة الروسية موسكو من أجل السيطرة عليها، بل وتستطيع هذه القوة أن تتقدم لمسافة لا تقل عن 800 كم دون أن تواجهها أي قوة عسكرية. بل إن يفغيني بريغوجين طالب بتسليم وزير الدفاع سيرجي شويغو ورئيس هيئة الأركان فاليري غيراسيموف من أجل محاسبتهم. وبينما اتجهت الأحداث نحو التصعيد وأصبحت الحرب الأهلية قاب قوسين أو أدنى، هدأت الأمور فجأة وتخلى بريغوجين عن تمرده وعادت قوات فاغنر إلى قواعدها وسحبت الملاحقة الجنائية لزعيمها وعناصرها بوساطة من الرئيس البيلاروسي. انتهت حركة التمرد أو المحاولة الانقلابية أو الخيانة الوطنية، أيّاً كانت تسميتها، ولكن هذه النهاية لم تجلب معها إجابات واضحة ومحددة حول سيل من الأسئلة التي تكاد لا تنتهي.
روسيا هي لغز ملفوف في لغز داخل لغز، كما وصفها ذات يوم رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل، وأمام هذا الواقع قد يستحيل أن نعرف ماذا حدث بالتفصيل خلال الأيام الماضية. لكن على الأقل يمكن استنتاج عدد من التصورات عن الواقع الحالي بعد التمرد دون أن يتم القطع بأنها تمثل حقيقة صارمة يمكن الجزم بها. من هذه التصورات أن الوضع داخل روسيا ليس صلباً بما فيه الكفاية، وأن هناك تصدعات بدأت بالظهور في الحائط الروسي بعد مرور أكثر من ستة عشر شهراً منذ انطلاق الحرب في أوكرانيا. ما كان يقال في الغرف المغلقة أصبح يتم الصدح به على رؤوس الأشهاد حول جدوى الحرب واحتمالات تحقيق النصر، ولعل تصريحات بريغوجين حول التشكيك بكفاءة الجيش، بل ومشروعية الحرب بحد ذاتها عندما نفى أن يكون حلف الناتو كان يزمع مهاجمة روسيا، هذه التصريحات لعلها أشد وطأة من التحركات العسكرية على خطورتها. لقد تحولت أوكرانيا بالنسبة لروسيا كبحر من الرمال المتحركة كلما تحركت القيادة الروسية كلما غاصت أكثر وتورطت بشكل أعمق. المستنقع الأوكراني لن يؤثر على التوازن الاستراتيجي بين روسيا والغرب وحسب، بل سوف تؤثر هذه الحرب على طبيعة النظام السياسي الروسي واستقراره الذي بدا أقل قوة مما كان عليه. الأهم من ذلك أن حالة الانقسام تزداد قوة في المجتمع الروسي بين فئة تغلبها المشاعر الوطنية المعادية للغرب، التي ترى أن هذه الحرب ضرورية للحفاظ على الوطن الروسي وحماية أمنه ومصالحه القومية، وبين فئة أخرى ترى أن هذه حرب لا يمكن النصر بها، وأن أسوأ ما فيها هو استمرارها ولو ليوم إضافي، حيث تسقط الدماء والهيبة والمصالح الروسية. بعيداً عن مستقبل مليشيات فاغنر وزعيمها بريغوجين فإن روسيا تنفتح على احتمالات متعددة أقلها ترجيحاً أن يعتبر ما حدث في التمرد صفحة وطويت، أما الاحتمال الآخر فهو أن هذا التمرد سوف يفتح الأبواب لأصوات أعلى تنتقد الحرب وتضعف الجبهة الداخلية. المؤكد أن روسيا مطالبة وأكثر من أي وقت مضى أن تعيد النظر في استراتيجيتها حيال الحرب في أوكرانيا ولأسباب روسية بالدرجة الأولى.
روسيا هي لغز ملفوف في لغز داخل لغز، كما وصفها ذات يوم رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل، وأمام هذا الواقع قد يستحيل أن نعرف ماذا حدث بالتفصيل خلال الأيام الماضية. لكن على الأقل يمكن استنتاج عدد من التصورات عن الواقع الحالي بعد التمرد دون أن يتم القطع بأنها تمثل حقيقة صارمة يمكن الجزم بها. من هذه التصورات أن الوضع داخل روسيا ليس صلباً بما فيه الكفاية، وأن هناك تصدعات بدأت بالظهور في الحائط الروسي بعد مرور أكثر من ستة عشر شهراً منذ انطلاق الحرب في أوكرانيا. ما كان يقال في الغرف المغلقة أصبح يتم الصدح به على رؤوس الأشهاد حول جدوى الحرب واحتمالات تحقيق النصر، ولعل تصريحات بريغوجين حول التشكيك بكفاءة الجيش، بل ومشروعية الحرب بحد ذاتها عندما نفى أن يكون حلف الناتو كان يزمع مهاجمة روسيا، هذه التصريحات لعلها أشد وطأة من التحركات العسكرية على خطورتها. لقد تحولت أوكرانيا بالنسبة لروسيا كبحر من الرمال المتحركة كلما تحركت القيادة الروسية كلما غاصت أكثر وتورطت بشكل أعمق. المستنقع الأوكراني لن يؤثر على التوازن الاستراتيجي بين روسيا والغرب وحسب، بل سوف تؤثر هذه الحرب على طبيعة النظام السياسي الروسي واستقراره الذي بدا أقل قوة مما كان عليه. الأهم من ذلك أن حالة الانقسام تزداد قوة في المجتمع الروسي بين فئة تغلبها المشاعر الوطنية المعادية للغرب، التي ترى أن هذه الحرب ضرورية للحفاظ على الوطن الروسي وحماية أمنه ومصالحه القومية، وبين فئة أخرى ترى أن هذه حرب لا يمكن النصر بها، وأن أسوأ ما فيها هو استمرارها ولو ليوم إضافي، حيث تسقط الدماء والهيبة والمصالح الروسية. بعيداً عن مستقبل مليشيات فاغنر وزعيمها بريغوجين فإن روسيا تنفتح على احتمالات متعددة أقلها ترجيحاً أن يعتبر ما حدث في التمرد صفحة وطويت، أما الاحتمال الآخر فهو أن هذا التمرد سوف يفتح الأبواب لأصوات أعلى تنتقد الحرب وتضعف الجبهة الداخلية. المؤكد أن روسيا مطالبة وأكثر من أي وقت مضى أن تعيد النظر في استراتيجيتها حيال الحرب في أوكرانيا ولأسباب روسية بالدرجة الأولى.