-A +A
علي بن محمد الرباعي
من القرآن الكريم آياتٌ محكماتٌ هنّ أُمّ الكتاب وأُخر متشابهات، والمُحكم واضح الدلالة بذاته، فيما المتشابه إشكالي، يحتمل معاني عدة، وربما لا نصل إلى مراد حرفيّته بإجماع، فاللغة القرآنية حمالةُ أوجه، والحاجة إلى العقل الصريح لا غنى عنه، بحكم أن النصوص التشريعية توقّفت بموت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وحين بعث الرسول عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، سأله: بمَ تقضي يا معاذ؟ فقال بكتاب الله، قال فإن لم تجد، فقال بسنّة رسول الله، فقال فإن لم تجد، قال، أجتهد رأيي ولا آلو، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ويرضاه.

بالطبع لم يرد في الهدي النبوي، تسمية للكليات والجزئيات، وإنما استنبط الفقهاء الأوائل من النصوص ما يرونه كُلياً وجزئياً، وربما لم يجرؤ عالِم على القول إن الكُليّات معنية بتنظيم علاقات ومعاملات الناس مع بعضهم، والجزئيات مختصة بعلاقة المسلم بربه، كون العلاقة الإنسانية غاية عظمى من خلق البشر، ومن الكليات عند المقاصديين حفظ الضرورات الخمس (النفس، والعقل، والمال، والعرض، والدِّين)، وأزيدُ عليها (حفظ الوطن) الذي هو محضن بقية الضرورات، ودونه لا يمكن حقن دماء، ولا تحصين عِرْض، ولا صيانة مال، ولا حماية عقل، أما الدِّين فجانب الفردي فيه أوسع من الجمعي.


ويطلق الشاطبي (الكليات) على (الضروريات، والحاجيات والتحسينيات)، ويراها أصول الشريعة، ولا ريب أنه ليس كل حاجيّ ضرورياً، ولا كل تحسيني حاجيّاً، كما أن الحاجيات والتحسينات غير منضبطة، فما تراه حاجياً ربما يراه غيرك تحسينياً، والعكس، وربما أحد الإشكالات الواردة على قول كهذا، أن (العِلم) مُدرج في الحاجي علماً بأنه ضروري، (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)، وكثير من معطيات العصر صلتها بالعِلم والعقل، دون اعتماد على النص الديني، خصوصاً عند الغرب، فيما سنظل نأخذ بمقولة (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن).

وإذا كان حفظ النفس من الضرورات، التي هي من المحكمات، فما عسى يكون موقف الفقهاء مما ينتجه العقل وما يخترعه ويبتكره، مما يحفظ صحة الإنسان، ويطيل عمره بإذن الله؟ أو إنتاج ما يضره ويفتك به، ويحيل نعيمه إلى جحيم؟ فإن عدينا العِلم من الضرورات وجب التسليم بكل منجز علمي، وإن قلنا حاجي، فسنقصره على البعض، وإن قلنا كمالي أو تحسيني فسنعارض محكم النص: «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»، و«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».

ولو سلمنا بأن الكليّات ما ثبتت بنص قطعي الدلالة والثبوت، فستضيق دائرتها، ويتسع محيط الجزئيات، خصوصاً أن الكليات ثابتة، والجزئيات متحولة، والجزئي لا ينفصم عن كونه ينطلق منه، ويعبّر عنه، ويتمثله في الواقع، وللجزئيات ارتباط بالدليل، والحكم، والمقصد، والمصلحة، والرخصة، والوسيلة، والعلة، والأدب.

أقام النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس ويربيهم على ثوابت العقيدة التي بها القوام، قبل انشغاله بتحطيم الأصنام، وبحكم بُعد العهد عن زمن النبوة، ربما غلب الناس الانشغال بالمسائل الفرعية، بحكم الوقائع المستجِدَّةَ، التي لا تستغني عن مجتهدين نجباء يحيلون الجزئيات على الكليات وفق رؤية ومنهج علميين.

وفي ظل الحديث اليوم عن الذكاء الاصطناعي وما سيتبعه قريباً وبعيداً من محاكاة للإنسان بالأجهزة (الروبوت) يطرح السؤال نفسه: هل سيغدو العِلمُ مُجرماً، والعقلُ مُداناً، والمعرفة مُتهمة؟ هذه التساؤلات نشأت عن طول تأمل في الفرضيات الفقهية الكثيرة، ولا أبالغ إن قُلتَ إن نصف مسائل الفقه المذهبي فرضية، بمعنى أن الفقهاء قعّدوا أحكاماً لوقائع لم تقع تحسباً لها فيما لو وقعت.

لستُ أدري ما الذي يفكر فيه مستقبلاً صانع الروبوتات، ومخترع الذكاءات، ولعلنا لم نسأل يوماً عن ماهية هذا المصنوع، فهل هو جنس موازٍ للبشر؟ أم جنس مساعد؟ أم بديل؟ وهل هو مُسيّر أم مخيّر؟ وما الذي يترتب على مخالفاته وجناياته؟ وماذا عنه، إذا دخل البيوت، أجنبي أم محرم؟ وهل يستأذن باعتباره بلغ الحُلم؟ أم أنه كالطفل الذي لم يطلّع على عورات النساء؟

بالطبع لا تقنية ضارة على إطلاقها، ولا اختراع نافع دون ضوابط، فما من منتج إلا وفيه وعليه، وما من مصلحة إلا تشوبها مفسدة، وقديماً قال المتنبي: «ومن العداوة ما ينالك نفعه، ومن الصداقة ما يضر ويُؤلِمُ».

كان جمع من أصدقاء يتحدثون عن مخرجات الذكاء الاصطناعي، وعوالم الروبوتية، وكشف أحد حضور دورة ذكاء اصطناعي أنه سأل المُدرّب عن الروبوت المزارع، وماذا لو أعطاه مسحاة وأمره بعزق الأرض، فتلخبطت البرمجة وبدلاً من عزق التربة عزق رأسه؟ فمن سيأخذ له حقه من هذا الجهاز القاتل؟ فيما تناول طالب جامعي أثر الروبوت الأكاديمي، في الغش والأمانة العلمية؟ وتحدث الفقيه عن ما يمكن أن يحدثه الروبوت المعرفي من خلل عقدي بتوفيره معلومات فائضة عن الحاجة الفعلية للعقل البشري المنسجم مع مسلماته على كوكب الأرض؟

في الغرب لم يصمتوا، بل بعث مئات من خبراء التكنولوجيا برسائل يطالبون فيها بإيقاف تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي لمدة ستة أشهر على الأقل، خشية المخاطر العميقة التي ربما يتعرض لها المجتمع والبشرية، بحكم ما سيحدثه الذكاء الاصطناعي المتقدم من تغيير في تاريخ البشرية، وإرباك حياة الناس المرتبكة بطبيعتها، خصوصاً أن السباق محموم بين المختبرات، والمليارات تُرصد لتحفيز وإغراء الباحثين بمواصلة الجهود، ودفعهم للمزيد حتى ولو خرج الوضع عن نطاق السيطرة، ولا ريب أن المخاطر محتملة، والجنائية واردة، في ظل الاستخدام غير المنظّم، وغير المنضبط، لتقنيات الذكاء الاصطناعي، الذي لا يخضع إلى الآن لا لحوكمة ولا شفافية! ما يُمثّل مصدر قلق للأمم والشعوب والحضارات، وربما يُلحق بنا ضرراً معنوياً بتطاوله على إرثنا الحضاري، وضرراً مادياً بصفة مباشرة، أو تسبباً، أو إعانةً، فمن سيحاسب الجهاز ومن سيعاقب الآلة وبماذا يعاقبها؟

تناول الفقه الإسلامي الفعل الضار، وما يترتب عليه من ضمانات، فيما يُعرف بالمسؤولية التقصيرية، واستعرضت كتب حالات إتلاف البهائم وما يلزم ضمانه من ملاكها، وأتصور أن الحاجة لمصفوفات قانونية مُلحّة وضرورية، خصوصاً أن لدينا مجمع الفقه الإسلامي وهيئة كبار العلماء، وفي عالمنا الإسلامي علماء وطلاب دراسات عُليا مطالبين بدراسة الآثار السلبية المتوقعة من الذكاء الاصطناعي وتقييم كل أثر وإعلاء الجانب المقاصدي والقواعدي عند الدراسة.