-A +A
صدقة يحيى فاضل
كثيرة هي القضايا والأمور العامة، التي تهم (أو يجب أن تهم) الدولة -أي دولة- وخاصة في عالم اليوم، والمستقبل. ولا توجد دولة في العالم إلا وهناك قضايا رئيسة تهمها، أو يجب أن تهمها؛ فأي دولة تجد أنها لا بد لها من الاهتمام بقضايا، أو مناطق إقليمية، أو دولية معينة.. ذلك أمر يقتضيه بقاؤها، والحفاظ على أمنها وسلامتها، وازدهارها. فالهدف الرئيس لأي دولة هو المحافظة على بقائها، وضمان أمنها، وتحقيق رفاه سكانها، لأكبر قدر ممكن، وبأفضل الوسائل المتاحة.. وهذا يتطلب عدة أمور؛ أهمها: امتلاك المعلومات اللازمة.

تبرز أمام كل دولة قضايا ومناطق تهمها أكثر من غيرها من القضايا والمناطق، إذ تمس مباشرة بمصالحها، وعقيدتها (سلباً وإيجابا) بشكل أو آخر... وبقدر أكبر من غيرها. والاهتمام، في حد ذاته، لا يكفي وحده.. فما فائدة «الاهتمام» إذا لم يقترن بفعل إيجابي يجعل لذلك الاهتمام مردوداً إيجابياً على مصالح الجهة (أو الدولة) المهتمة، المادية والمعنوية (أو المصلحية والعقائدية). ولعل أهم وأول عنصر من عناصر الفعل الإيجابي الملازم لـ«الاهتمام» هو محاولة الدولة أن تعرف (know) كل ما يمكن معرفته عن تلك القضايا، والمناطق، والمواضيع المعنية. ولا شك أن كل دولة من دول العالم تحرص على أن تكون لها أجهزة حكومية تقوم بهذه المهمة.. وتزود صناع القرار فيها بما قد يحتاجون إليه من معلومات عن تلك القضايا والمناطق.


إن أجهزة «المباحث» و«الاستخبارات العامة» هي أهم تلك الأجهزة... وهي دوائر لا غنى لأي دولة عنها، فأهمية هذه الأجهزة لا تقل عن أهمية أي مرفق عام آخر، إن لم تفقها. فإذا كان من الضروري إنشاء مؤسسات للدفاع (مثلاً) فإن من الحتمي إقامة الجهاز الاستخباراتي، وتدعيمه بما يمكنه من القيام بمهماته الجليلة في خدمة دولته.. ولا شك أن مجال العمل الاستخباراتي لأي دولة هو العالم بأسره.. مع التركيز على القضايا والمناطق التي تهم الدولة -أي دولة- بشكل أكبر وحسب ما يقتضيه تطور الأحداث وتنوع الظروف.

****

هذا على المستوى الرسمي (الحكومي)، أما على المستوى غير الرسمي، فإن الدول النابهة والمتقدمة تحرص على نشر الثقافة والمعلومات، المتعلقة بالقضايا، والمناطق، التي تهمها، بين أكبر عدد ممكن من سكانها، وخاصة المثقفين والمختصين منهم. وهذا يمكن تحقيقه عبر عدة وسائل؛ أهمها: أبحاث الجامعات، والمعاهد المتخصصة، ومراكز الدراسات..

(Research & Study Centers/‏Think Tanks)... وهي موضوع حديثنا اليوم؛ فكل دول العالم لا تكتفي بما توفره لها أجهزتها الحكومية الخاصة، بل وتستعين، إضافة لذلك، بمراكز البحث غير الحكومية، لمعرفة المزيد عما يهمها من أمور؛ فالدول الغربية (مثلاً) تهمها جداً منطقة الخليج العربي، وغيرها، لأسباب معروفة. لهذا، نجد أن مراكز الدراسات الخاصة بمنطقة الخليج العربي تنتشر في كل من هذه الدول. بعض هذه المراكز ملحق بجامعات ومعاهد، وبعضها مستقل، وقائم بذاته.. كمركز أبحاث أكاديمي. وقس على ذلك الكثير من المناطق والقضايا، التي تهم الدول. إن «مركز الدراسات» هو: مؤسسة تهتم بجمع وتحليل المعلومات، بشكل عام أو جزئي (في كل أو بعض مجالات وجوانب الحياة) عن قضية، أو منطقة معينة.. بقصد تعميم فائدة تلك المعلومات، والاستفادة منها في ما يخدم الصالح العام للجهة المهتمة، و«يرشد» قراراتها.

وعادة ما يتكون مركز الدراسات، سواء كان تابعاً أو مستقلاً، من مقر ومتخصصين وخبراء، ويحتوي على: مكتبة متخصصة (بنك معلومات)، ويقوم بعمل ودعم الأبحاث الخاصة بالقضية، أو المنطقة، التي يتخصص فيها، ويصدر مطبوعات دورية متخصصة. وقد يحتوي على قسم للترجمة.. ويتبنى إقامة الندوات والمحاضرات.. وربما يصل الأمر به إلى إعطاء دورات تدريبية.. كما قد يتطور ليمنح درجات علمية عليا، في موضوعه، إن تحول إلى كلية، كما يحدث في بعض الحالات..

****

وفي المملكة، التي حققت، كما هو معروف، تقدماً كبيراً في مجالي العلم والمعرفة، أقيمت مراكز دراسات عدة، تتخصص في قضايا وأمور، تهم هذه البلاد. وقد أصبح لدينا، في الواقع، عدة مراكز أبحاث في مجالات الاقتصاد، والإدارة، والقانون، وغيرها. ومن أهم هذه المراكز وأحدثها (حتى الآن): مراكز البحث العلمي في الجامعات والمعاهد السعودية، ومراكز بحث خاصة، منها: مركز الخليج للأبحاث، مركز دراسات الشرق الأوسط، و«مركز أسبار للدراسات الاستراتيجية»؛ وهي من المؤسسات غير الحكومية، التي تهدف إلى نشر وتعميم دراساتها، بين المهتمين والعامة، وغير ذلك من المراكز المعروفة.

وقد لفت نظري مقال رصين للدكتور عبد الله فيصل آل ربح، وهو باحث غير مقيم في «معهد الشرق الأوسط» بواشنطن، نشر المقال في صحيفة «عكاظ»، بعنوان «مراكز الفكر وتحديات الوطن» (عكاظ: العدد 20470، 17-18 فبراير 2023م، ص 13). يقول الدكتور آل ربح في بداية مقاله المطول: «وفقاً لتقرير برنامج الفكر والمجتمع المدني بجامعة بنسيلفانيا، المعروف بـ(Global Go to Think Tank Index Report, 2020) فإن بالمملكة 13 مركز أبحاث فقط، وهذا الرقم متواضع جداً، مقارنة بالدول ذات الطموح الاستراتيجي في المنطقة، مثل إيران (وبها 87 مركزاً) وإسرائيل (وبها 78 مركزاً) وتركيا (وبها 53 مركزاً)، بل حتى الدول الغارقة في أزماتها الداخلية تتفوق في عدد مراكزها؛ فلبنان لديه 35 مركزاً، واليمن 29 مركزاً.. هذا على مستوى العدد، أما على مستوى جودة الإنتاج، فلا يوجد أي مركز سعودي ضمن قائمة أفضل سبعة مراكز في الشرق الأوسط».

ويمضي قائلا: «منذ إطلاق رؤية 2030 تواجه المملكة العديد من التحديات على المستويين الاستراتيجي، والإعلامي، والتي تستوجب وجود «مراكز فكر» رصينة، تواكب الحدث، وتقدم إنتاجاً فكرياً، يرفد صانع القرار برؤى مختلفة، عن تلك التي تصدر من موقع المسؤول. غير أن الواقع يثبت أن تلك المراكز ليست بالمستوى المطلوب. بل هي متأخرة، بشكل كبير جداً عن دول الجوار، ناهيك عن الدول الغربية. وهنا يطرح السؤال: أين تكمن المشكلة؟!»،.

ثم يحاول الدكتور آل ربح الإجابة على هذا السؤال، عبر توضيح أبرز نقاط القصور والضعف في هذه المراكز، وسبل النهوض بها. وهذا ما سوف نتطرق له، في مقالنا القادم.