-A +A
علي بن محمد الرباعي
لا يولد المرء منا خيّراً ولا شرّيراً؛ لكنه يمكن أن يتعلم ذلك ؛ والنفوس للشرّ أميل كما قال المتنبي (وَقَد يَتَقارَبُ الوَصفانِ جِدّاً؛ وَمَوصوفاهُما مُتَباعِدانِ، أبوكم آدمُ سنّ المعاصي ؛ وعلّمكم مفارقة الجِنان) !! ولعل أخطر ما يمر بالأجيال (التناقض) بين ما يتعلمه في المؤسسة؛ وما يتربى عليه في البيت؛ وما يقرأ ويسمع في الإعلام ؛ وما يشاهد في التقنية؛ ومن هنا نشأ (الكائن المُزدوج)، ويقال إن آدم عليه السلام لم يكن يعرف الكذب حتى التقى إبليس؛ وكثير من المجتمعات تؤمن بالله وتعبده، إلا أن (الأبالسة) تجعلهم يتعاركون بسبب اختلاف طرق العبادة، وتعدد وسائل الاتصال بالله.

ربما يظن البعض أن التعليم سبب المهارات التي أتقنتها النخب المتعلمة في أيّ مجتمع، إلا أن مراجعة التاريخ القديم والجديد، تُثبت أن المهنة والحِرفة والصناعة والخبرات أجادها الإنسان بالمحاكاة أو التجريب، وفرضتها الحاجة للاختراع؛ ثم جاء التعليم ليطوّر ويوفّر الكثير من الانسجام بين الآدمي والآلة؛ ولم يكن التعليم بريئاً مطلقاً من تعليم الطالب والجهاز الغشّ.


لا شك أن التعليم نسق مؤثر، إلا أنه ليس المؤثر الأوحد، فنحن حاملو جينات وراثية، تتحكم في تصرفاتنا (غصب عنا)؛ ونحن مخرجات تربية أُسرة؛ وعائلة تربينا في كنفها، ونحن نتاج خطابات دينية وسياسية مُوجِّهَة للمشاعر والقناعات وربما العصبيات ومحددة للمسارات، ثم نحن أُسارى أجهزة محمولة ومنقولة ومتجولة تنقل لنا؛ وتنقلنا لهم؛ وتوجهنا دون شعور منا، وربما يفرط بعضنا في وجبة أو واجب، ولا يفرط في جواله.

ما ميّز فترة ما قبل العصر الرقمي؛ يتمثل في توافق رؤية؛ الأب، والأُم، والجار، والمعلم، والإعلام، والدولة في إعلاء شأن الأخلاق، وإيمانهم بأن العِلم صلاح وإصلاح؛ وكانت تتكامل الرؤى والمقاصد، فليس بين المغذيات تفاوت ولا تنافر ولا تناقض، فالأخلاق الحسنة مطلب في البيت، والمدرسة، والشارع، والوظيفة، ومع المجتمع والدولة.

مما أستعيده باستمرار بكثير من الاشتياق (مجالس الرجال)، فالمجالس كانت المدارس الأولى؛ وأحاديث الرجال ملح الجلاس، وفاكهة الجلسة، وكم من أجيال تعلّمت الحكمة، وحفظت الشعر، ونقلت الروايات عن رموز فذة، لهم باع في معاركة الحياة والانتصار مرة، والانهزام مراراً؛ وفي جعبة الخمسينيين والستينيين الكثير مما تحفظه الذاكرة عن رواة ثقات؛ وقل ما يمر بأحدنا موقف أو يشاهد حادثة أو يسمع حكاية دون تعليق عليها بشيء من مخزون ماض قريب؛ لا تزال تسكننا حيويته.

لم يكن المتحدث في مجلس ما يتحدث ليُسلّي الجالسين معه، ونحن لا نأخذ معلومات فقط ممن يحدثنا، بل نكتسب سمتاً، وأدباً، وفصاحة، وتهذيباً، وشجاعة، ومعالجة أزمات، وفك اشتباك، وضبط نفس، وتدريباً على الإلقاء، والأهم من كل ذلك ما نستقيه من روح المُتحدث؛ فالكلام في الفؤاد، وإنما جُعل اللسانُ على الفؤاد دليلا، وحديث الفضلاء العقلاء الفصحاء ذوي الخبرات (علاج وغذاء) وبناء للشخصية السوية؛ ولا ينبئك مثل خبير، أدرك أنه لا سعادة في الأرض إلا باحترام قوانين السماء.

لا أنسى أن أدب الإنصات كان ضرورياً؛ خصوصاً عندما يتحدث الكبار ؛ بل هو شرط للقبول بك شريكاً في الجلسة، فمقاطعة المتحدث عيب وخطأ يوجب الاعتذار ولذا كنا نسمع عبارة (ولا تلكم إلا بشحم) إذا أراد أحد الحضور يستفسر من المتكلم عما فاته، وكان الإصغاء من أعظم الآداب التي تحلت بها أناسي كثير، والإصغاء فنّ؛ فإذا تحدث الكبير الكل يسمع دون مقاطعة، ولا انشغال ولا تشويش.

ومن المروءة، وكرم النفس، والأمانة في النقل أن ينسب (الناطق الرئيس لمجلس القرية أو القبيلة) القصة لصاحبها، والحادثة لمُحدثها، والحكاية لحاكيها، والقصيدة لقائلها، وإن روى عن غائب قال (الرجال غائب وملائكته حاضرين) وإن جيّر خبراً على ميّت قال (ولا أزوع رأسه بكذبة) وإن كان صاحب القضية حاضراً أحال الكلام عليه؛ فالمجالس تفرض احترام النقل والناقل.

اخترقت التقنية حياتنا وانقطع السند بيننا وبين الرواة الطبيعيين، ليحل محلهم رواة مصنوعون أو مصطنعون، يعتمدون على نواقل غير موثوقة، وربما دخلنا مرحلة التدليس في الإسناد، وفي الشيوخ؛ كما يقول علم (مصطلح الحديث) وباندثار المجالس، امحى فعلها الثقافي والأخلاقي، وحلّ محلها غالباً مجالس مفتعلة، وارتجالية، ومُربكة، تقطع حديث المتحدث بالرد على اتصال هاتفي هامشي، وأحياناً بطريقة همجية، وتقوم الجلسات على مقولات مفبركة، وتسأل المُفبرك، من أين جئت بها فيردّ؛ قرأتها في تويتر، شفتها في تيك توك، سمعت واحداً يقولها في الفيس بوك، شاهدتها في السناب.

كنا بالأمس نتعلّم من إنسان حكيم، واليوم معلمنا جماد أحمق، عبر التقنية التي لا أخلاق لها (غالباً) إلا غاياتها ومقاصدها، وهي عديمة الإنسانية، وفاقدة للضمير، كما أنه لا حظ لها في أدبيات، ولا ضوابط تؤطر ما تنشره، و ربما تكون نزاهة البشرية في خطر على مستوى الصدق، فمواقع التواصل تنفث شائعات أكثر مما تبث من الحقائق، وعلى مستوى الأمانة؛ نرى بعض المواقع تدرّب على الخيانة، وتضرّي على الاحتيال؛ وهي مملوكة لتجار لا يعنيهم إلا جني المكاسب وإن تسببوا في متاعب.

الوسط المُعتل يُنتج معتلين، والمجموعة المُختلة تصدّر مختلين، والهياط الرقمي دليل على أن البعض لم يستفد من تعليمه ما يواري به سوءة جهله، ولم يجن من سنوات دراسة ما يسد به عوز وعيه، ومن المناسب التركيز على التعليم. وأتساءل؛ لماذا نجح تعليم أمم في جعلهم كائنات مُنتجة، ولماذا تعليم عالمنا العربي لا يزال استهلاكياً؟ ولا يخفى على صانع السياسات ما يعدنا به الإنتاج من آلات وأجهزة رقمية ستُدخلُ تعليمنا في تحدٍ كبير، وأنا أقول؛ ليس بالتعليم وحده يحيا الإنسان، ولا بالتقنية يتقدم، بل بالأخلاق والقيم والانتماء الخالي من الشوائب، وإذا كانت بعض مواقع ومنصات التواصل لا تعير للأخلاق أدنى اهتمام فالواجب ترشيدها. ومن نافلة القول إن الشيطان دفع أبانا آدم عليه السلام للتمرد وحفزه للأكل من الشجرة ليضمن الخلود، وهذا ما تفعله الرقمية؛ بل ربما تتجاوز الإغواء بالإغراء حدّ الدفع بنا وبأبنائنا لورطات قانونية أو أخلاقية؛ كوننا نقتني أجهزة لم يصل وعي البعض منا لمستوى معرفة كُنهها، وإن قال أحدكم عنّي (متشائم) فأنا كذلك. وختاماً؛ قُل لي من هو مُعلّمك، وأستاذك، وشيخك، ومُلقنك، لأقل لك من أنت.