قبل حوالى خمس سنوات، وتحديداً بتاريخ 18/ 10/ 2018، انتقل إلى رحمة الله، عن عمر يناهز الـ 83 عاماً، قائد وزعيم عربي نبيل، يعتبر واحداً من أكبر السياسيين المصلحين في العالمين العربي والإسلامي، بل وفى أفريقيا وكل العالم، ألا وهو المشير عبدالرحمن سوار الذهب، يرحمه الله، الذي ما زال يضرب به المثل على الحكمة والإيثار، والتفاني في خدمة المصلحة العامة لبلاده، وتقديمها حتى على مصلحته الخاصة. أحزنتني، عندئذ، وفاته كثيراً، كوني من متابعي مسيرته العملية الناصعة، ومن المعجبين بدوره السياسي في القطر السوداني الشقيق، وفى المنطقة العربية، ولتمتعه بسمعة سياسية عالمية عطرة، باعتباره واحداً من القادة السياسيين المصلحين في العالم، الذين قل أن يجود الزمان بأمثالهم. هو أحد الـ «ديكتاتوريين المصلحين»، كما يسمون في «علم السياسة». وهذا النوع من القادة نادر، سواء في العالم، ندرة الماء في الصحراء.
يقسم علماء السياسة الحكومات إلى نوعين رئيسين: الديمقراطية والديكتاتورية. والنوع الأخير ضروري في حالات ثلاث: إنشاء دولة من عدم، إصلاح دولة فاسدة جداً، إنقاذ دولة من انهيار وشيك. ويقولون إن الديكتاتور «المصلح» (سواء كان فرداً، أو قلة من الأفراد) ينقذ بلاده في هذه الحالات بخاصة، ويتولى السلطة مؤقتاً. ثم يحول بلاده إلى النظام التمثيلي، ويسلم السلطة للشعب، عبر انتخابات رئاسية وتشريعية، ويرحل، في أسرع وقت ممكن. فيدخل، بذلك، تاريخ بلده من أوسع وأكرم أبوابه. والتاريخ السياسي المعاصر يذكر عدداً محدوداً جداً من هذه النوعية النادرة من القادة، يأتي في مقدمتها: كيم داي جونج (في كوريا الجنوبية) وليي كوان يو (في سنغافورة) وخوان بيرون (في الأرجنتين) وعبدالرحمن سوار الذهب (في السودان).
****
شخصياً، تشرفت بمعرفته هنا بالمملكة، التي أحبته وأحبها. فآثر أن يعيش بقية عمره فيها. وتمنى أن يموت في أرضها الطاهرة، وأن يدفن في بقيع الغرقد، في رحاب مدينة الرسول العظيم، صلى الله عليه وسلم. وشاء الله له ما أراد، وحققت القيادة السعودية الكريمة أمنيته. لقد وفقه الله لبناء سمعة عربية وإسلامية وعالمية رفيعة. أذكر أنى التقيت به أربع مرات، كانت كافية ليكون له في نفسي تقدير عميق، واحترام كبير، وإعجاب علمي بإنجازه الأكبر. قابلته مرتين في رابطة العالم الإسلامي، أثناء بعض الفعاليات الثقافية. ومرة أثناء مؤتمر التحضير للقمة الإسلامية الطارئة الثانية التي عقدت بمكة المكرمة، عام 2005. ومرة أثناء إحدى المحاضرات الثقافية في مهرجان الجنادرية. وفى كل مرة، تحدثت معه عن بعض قضايا الأمة، وما تمر به من أزمات. وفى آخر لقاء معه، حدثته بما سمعته وقرأته عنه أثناء تواجدي عام 2001، كأستاذ زائر في قسم العلوم السياسية، بجامعة جورج واشنطن، بالعاصمة الأمريكية.
كنت أحضر محاضرات في مادة «النظم السياسية المختلفة»، التي يدرسها أحد كبار أساتذة تلك الجامعة. وإذا بذلك الأستاذ يتحدث عن القادة السياسيين المصلحين في العالم، ويذكر - بإعجاب وتقدير ملحوظين - عبدالرحمن سوار الذهب، كواحد من هؤلاء الأماجد. لم أكتفِ بما سمعت، بل بحثت في بعض المراجع العلمية المعنية، لأقرأ المزيد عن إنجاز هذا الرجل، الذي كتب صفحة بماء الذهب في التاريخ السياسي للعالم العربي والعالم ككل. قلت لفخامة المشير (الرئيس) ما سمعت وقرأت عنه، فأخجلت تواضعه الجم المشهود، وشكرني بمنتهى اللطف والأدب، وطلب منى تزويده بتلك المقالة، ففعلت. وقد زاد حديثي معه من إعجابي بأخلاقه، وتقديري لشخصه.
****
ولد في مدينة الأبيض عام 1934. شغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش السوداني، ثم أصبح وزيراً للدفاع، في عهد الرئيس السابق جعفر نميري. وأصبح خامس رئيس للجمهورية السودانية. إذ تسلم السلطة عام 1985، إثر انتفاضة أبريل 1985 الشعبية. حيث قام عدد من كبار الضباط بانقلاب عسكري على الرئيس نميري، تولوا عقبه السلطة. وعين عبدالرحمن سوار الذهب رئيساً للسودان، باعتباره أعلى قادة الانقلاب والجيش رتبة آنئذ. فأمسى رئيساً للمجلس الانتقالي، الذي سلّم السلطة عام 1986، بعد حوالى سنة واحدة، لحكومة السودان الجديدة المنتخبة في حينه، التي رأس وزراءها السيد الصادق المهدي، وأصبح أحمد الميرغني رئيساً للدولة. رقي سوار الذهب إلى رتبة «مشير». كان بإمكان المشير أن يستمر في السلطة، لكنه ترجل طائعاً مختاراً، مقدماً مصلحة وطنه على ما عداها. ثم اعتزل العمل السياسي، ليتفرغ لأعمال الدعوة الإسلامية، من خلال منظمة الدعوة الإسلامية التي أصبح أمينها.
****
ومن طريف ما يروى عن المشير، أنه في عام 1989، تخرج ضبّاط من الكلية العسكرية السودانية، وجاء في المركز الأول على الدفعة عبدالرحمن سوار الذهب. وجرت العادة على إرسال أول ثلاثة خريجين إلى بريطانيا، لإكمال دراستهم في كلية «ساند هيرست» الحربية الشهيرة. وعند التخرج حصل الثلاثة على المراكز الأولى ضمن الخريجين، من شتى الدول، ومنحت لهم جوائز وأوسمة رفيعة. كما طلب منهم البقاء في بريطانيا، والعمل بجيشها. ولكنهم اعتذروا، وأصروا على العودة للسودان. كان بحث التخرج الذي أعطي لسوار الذهب عبارة عن خطة عسكرية لاحتلال الخرطوم. فقدم الطالب عبدالرحمن خطة، عنوانها الظاهر احتلال الخرطوم. ولكن عندما فتحوا البحث، وجدوه عبارة عن خطة عسكرية محكمة لاحتلال لندن. فاستدعي الطالب (المشير فيما بعد)، وسُئل: لماذا لم تكتب عن عاصمة بلادك؟ فأجابهم: وهل أنا خائن، لأقدم لكم خطة لاحتلال بلدي؟!
****
ما دفع للكتابة عن هذا الزعيم، هو ما يعانيه السودان الشقيق الآن، من اضطرابات خطيرة، نتيجة المواجهات الدامية بين الجيش السوداني، وما يسمى بـ«قوات التدخل السريع»، وما يسفر عنه هذا الاقتتال من قتل وتدمير، الضحية الأكبر فيه هو الشعب السوداني، الذي نسأل الله أن يقيض له زعماء (من نوعية المشير سوار الذهب)، ينتشلونه من هذه المأساة، ويعيدون له أمنه واستقراره، وازدهاره. رحم الله الراحل عبدالرحمن سوار الذهب، العابد الزاهد، والقائد الصادق الوفي لشرف الجندية وخدمة القوات المسلحة لبلاده.
يقسم علماء السياسة الحكومات إلى نوعين رئيسين: الديمقراطية والديكتاتورية. والنوع الأخير ضروري في حالات ثلاث: إنشاء دولة من عدم، إصلاح دولة فاسدة جداً، إنقاذ دولة من انهيار وشيك. ويقولون إن الديكتاتور «المصلح» (سواء كان فرداً، أو قلة من الأفراد) ينقذ بلاده في هذه الحالات بخاصة، ويتولى السلطة مؤقتاً. ثم يحول بلاده إلى النظام التمثيلي، ويسلم السلطة للشعب، عبر انتخابات رئاسية وتشريعية، ويرحل، في أسرع وقت ممكن. فيدخل، بذلك، تاريخ بلده من أوسع وأكرم أبوابه. والتاريخ السياسي المعاصر يذكر عدداً محدوداً جداً من هذه النوعية النادرة من القادة، يأتي في مقدمتها: كيم داي جونج (في كوريا الجنوبية) وليي كوان يو (في سنغافورة) وخوان بيرون (في الأرجنتين) وعبدالرحمن سوار الذهب (في السودان).
****
شخصياً، تشرفت بمعرفته هنا بالمملكة، التي أحبته وأحبها. فآثر أن يعيش بقية عمره فيها. وتمنى أن يموت في أرضها الطاهرة، وأن يدفن في بقيع الغرقد، في رحاب مدينة الرسول العظيم، صلى الله عليه وسلم. وشاء الله له ما أراد، وحققت القيادة السعودية الكريمة أمنيته. لقد وفقه الله لبناء سمعة عربية وإسلامية وعالمية رفيعة. أذكر أنى التقيت به أربع مرات، كانت كافية ليكون له في نفسي تقدير عميق، واحترام كبير، وإعجاب علمي بإنجازه الأكبر. قابلته مرتين في رابطة العالم الإسلامي، أثناء بعض الفعاليات الثقافية. ومرة أثناء مؤتمر التحضير للقمة الإسلامية الطارئة الثانية التي عقدت بمكة المكرمة، عام 2005. ومرة أثناء إحدى المحاضرات الثقافية في مهرجان الجنادرية. وفى كل مرة، تحدثت معه عن بعض قضايا الأمة، وما تمر به من أزمات. وفى آخر لقاء معه، حدثته بما سمعته وقرأته عنه أثناء تواجدي عام 2001، كأستاذ زائر في قسم العلوم السياسية، بجامعة جورج واشنطن، بالعاصمة الأمريكية.
كنت أحضر محاضرات في مادة «النظم السياسية المختلفة»، التي يدرسها أحد كبار أساتذة تلك الجامعة. وإذا بذلك الأستاذ يتحدث عن القادة السياسيين المصلحين في العالم، ويذكر - بإعجاب وتقدير ملحوظين - عبدالرحمن سوار الذهب، كواحد من هؤلاء الأماجد. لم أكتفِ بما سمعت، بل بحثت في بعض المراجع العلمية المعنية، لأقرأ المزيد عن إنجاز هذا الرجل، الذي كتب صفحة بماء الذهب في التاريخ السياسي للعالم العربي والعالم ككل. قلت لفخامة المشير (الرئيس) ما سمعت وقرأت عنه، فأخجلت تواضعه الجم المشهود، وشكرني بمنتهى اللطف والأدب، وطلب منى تزويده بتلك المقالة، ففعلت. وقد زاد حديثي معه من إعجابي بأخلاقه، وتقديري لشخصه.
****
ولد في مدينة الأبيض عام 1934. شغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش السوداني، ثم أصبح وزيراً للدفاع، في عهد الرئيس السابق جعفر نميري. وأصبح خامس رئيس للجمهورية السودانية. إذ تسلم السلطة عام 1985، إثر انتفاضة أبريل 1985 الشعبية. حيث قام عدد من كبار الضباط بانقلاب عسكري على الرئيس نميري، تولوا عقبه السلطة. وعين عبدالرحمن سوار الذهب رئيساً للسودان، باعتباره أعلى قادة الانقلاب والجيش رتبة آنئذ. فأمسى رئيساً للمجلس الانتقالي، الذي سلّم السلطة عام 1986، بعد حوالى سنة واحدة، لحكومة السودان الجديدة المنتخبة في حينه، التي رأس وزراءها السيد الصادق المهدي، وأصبح أحمد الميرغني رئيساً للدولة. رقي سوار الذهب إلى رتبة «مشير». كان بإمكان المشير أن يستمر في السلطة، لكنه ترجل طائعاً مختاراً، مقدماً مصلحة وطنه على ما عداها. ثم اعتزل العمل السياسي، ليتفرغ لأعمال الدعوة الإسلامية، من خلال منظمة الدعوة الإسلامية التي أصبح أمينها.
****
ومن طريف ما يروى عن المشير، أنه في عام 1989، تخرج ضبّاط من الكلية العسكرية السودانية، وجاء في المركز الأول على الدفعة عبدالرحمن سوار الذهب. وجرت العادة على إرسال أول ثلاثة خريجين إلى بريطانيا، لإكمال دراستهم في كلية «ساند هيرست» الحربية الشهيرة. وعند التخرج حصل الثلاثة على المراكز الأولى ضمن الخريجين، من شتى الدول، ومنحت لهم جوائز وأوسمة رفيعة. كما طلب منهم البقاء في بريطانيا، والعمل بجيشها. ولكنهم اعتذروا، وأصروا على العودة للسودان. كان بحث التخرج الذي أعطي لسوار الذهب عبارة عن خطة عسكرية لاحتلال الخرطوم. فقدم الطالب عبدالرحمن خطة، عنوانها الظاهر احتلال الخرطوم. ولكن عندما فتحوا البحث، وجدوه عبارة عن خطة عسكرية محكمة لاحتلال لندن. فاستدعي الطالب (المشير فيما بعد)، وسُئل: لماذا لم تكتب عن عاصمة بلادك؟ فأجابهم: وهل أنا خائن، لأقدم لكم خطة لاحتلال بلدي؟!
****
ما دفع للكتابة عن هذا الزعيم، هو ما يعانيه السودان الشقيق الآن، من اضطرابات خطيرة، نتيجة المواجهات الدامية بين الجيش السوداني، وما يسمى بـ«قوات التدخل السريع»، وما يسفر عنه هذا الاقتتال من قتل وتدمير، الضحية الأكبر فيه هو الشعب السوداني، الذي نسأل الله أن يقيض له زعماء (من نوعية المشير سوار الذهب)، ينتشلونه من هذه المأساة، ويعيدون له أمنه واستقراره، وازدهاره. رحم الله الراحل عبدالرحمن سوار الذهب، العابد الزاهد، والقائد الصادق الوفي لشرف الجندية وخدمة القوات المسلحة لبلاده.