-A +A
علي بن محمد الرباعي
كان من عادة الأمهات اللواتي ولدن أطفالهن في البيوت دفن ما يخرج من بطن الأم وبعض الحبل السري، وما يتم اقتطاعه بالختان، في باطن الأرض، بل في أعزّ وأغلى الحيازات الزراعية على أهل المولود، وتردد الجدة وهي تدفن (قطعة الرغلة)، (الله الله في بلادك، لك وسابع من ولادك، وان قليل البخت قادك، للفشيله لا تطيعه)، والسبب كما يقولون لكي (يطلع رجّال يحب البلاد) وهذا الطقس له دلالة ثقافية عميقة وثيقة الصلة بالمجتمع الكوني، وبسر الارتباط بالوطن الأرض.

وربما أن طقوس القداسة في التاريخ البشري تبدأ ولا تنتهي، فالأرض المقدسة ثابت من ثوابت الأديان، والماء المُقدّس المبارك حاضر في الثقافات، والنباتات والأشجار، والمراقد، والعتبات، وغيرها مما توارثته الشعوب، وتواصت به، يؤصل التشابه بين الثقافات والحضارات والتقاطع أحياناً، في العناية بإرثها من المعاني والمباني، وليست المقدسات، غاية في ذاتها، بل هي وسائل تذكير بأهمية، صلتنا بالسماء، والغيبيات.


ربما كان (الشراء) في عُرفنا أوفرُ حظاً ومقاماً من (البيع)، ذاك أن عرض الموجودات مؤشر على الحاجة والفلس، والاقتناء دليل الوفرة والشبع، فالبائع مهووس بالأرقام، والمشتري تعنيه الأحجام، والمشتري يحفظ، والبائع يفرّط: وما كل شيء عند من اشترى قابل للبيع، وما كل شيء عند الباعة قابل للاحتفاظ به، وما كل ما يُباع يمكن استرداده.

هناك باعة مهرة، يطيلون أمد المساومة لجني المزيد من الأرباح، وهناك باعة سُذّج يختصرون الزمن في سبيل الخلاص من السلعة، أو العين، في سبيل تحصيل ما توفّر من ثمن، وهناك باعة يتراجعون عن البيع في آخر لحظة، بسبب استيقاظ الضمير أو تأنيبه، وهناك من باع، وقضى بقية عمره متأسفاً مكسوفاً من نفسه، قبل كسوفه من الآخرين.

وإن سلّمنا بجائحة التسليع التي عمّت وطمّت، ومنها تسليع القِيَم والمبادئ، إلا أن الأوطان لا يمكن تسليعها، ومن سلّعها أجرم، ولو قبض المقابل الذي يراه مجزياً، ولو تباهى بذلك، فهو مهدور الكرامة، ويصح أن نُطلق عليه وصف (الرخيص)، فالأوطان تربطنا بالوجود العام، والكينونة الذاتية المرتبطة بالمكان، والزمان والإنسان، وإذا كان المتنبي قال (ولكن من الأشياء ما ليس يُوهبُ)، فكذلك من الأشياء ما لا يباع.

علاقتنا بالوطن علاقة تملّك متبادل، يبدأ من الأرض ثم يرفده الشعور الروحي بقداسة الانتماء، ثم يتطور بالمعرفة، ويتعزز بالشراكة في البناء والعطاء تحت مظلة المواطنة بكامل حقوقها وواجباتها.

الوطن كينونة تبدأ بالآباء والأمهات ثم الأجداد والجدات والأخوال والخالات والأعمام والعمات، فهل سمعنا تاريخياً عن إنسان كامل الوعي والأصالة والإنسانية باع والديه، أو تاجر بأهله، أو سمسر على ذويه، أما فاقد الأصالة وناقص الوعي وعديم الانسانية فكل شيء متصوّر منه، كونه تستوي في عينيه الأنوار والظُلَمُ.

للخسارة متعة كما للانتصار لذة، ولا يعرف متعة الخسارات إلا مَنْ تعوّدها، ومن أدمن الهزائم لا تطيب له حياة دونها (مازوخية) ربما، إنه يتعب إن مرّ يوم أو أسبوع أو شهر أو عام دون نكسة يضيفها لنكساته.

هل نتصور لماذا يستمر لاعب القمار في مقامرته، علماً بأنه يرهن وقته وماله لهامش أمل ضئيل في الكسب، ربما لا يتحقق، ولو تحقق سرعان ما يفلت، بسبب قلة أو انعدام التدبير، وضحالة التفكير، وانتقام الحياة من المقامر بتوليعه بالمقامرة، ويستمر الخاسر في المكابرة، وترقب ابتسام الحظ العابس.

العلاقة بالأوطان، أقوى وأعمق من العلاقة بالإنسان، أياً كانت صلة قرابتنا به، وعشقنا لوطننا السعودي لا يقبل مزايدة ولا مهايطة ولا استهانة أو تهوين كون العلاقة متجذرة، برغم أنف الذين أعلوا جانب الوهم على الحقائق، فتعلقوا بخيوط حلم أوهى من بيت العنكبوت، الباعة لم يبدأوا مشوارهم ببيع الأوطان، بل هناك مسبقاً بيع كرامة، وبيع ذمة، وبيع شرف، وبيع عهد وبيعة، ومن يبحر ويحرق المراكب ليس لديه نية رجعة أو تراجع.

الذي قبل أن يبيع وطنه، باع قبل ذلك أشياء كثيرة، ربما كان آخرها أغلاها، ولأن الرخيص لا يقدّر الغالي، فلن نستغرب، من رخيص تهاويه في منحدر الرُخص، حدّ الاستهانة بوطن مقدّس، يستمد قداسته من مكانة دينية ، وعراقة عربية ، وإرث حضاري.

كل خسارة مُعوّضة، إلا خسارة الأوطان، ومن يخسر وطنه يخسر نفسه، ويفقد معنى وقيمة الحياة.