-A +A
بشرى فيصل السباعي
من أسوأ الظواهر التي يمكن أن تصيب أي مجتمع متديّن أن تسوده النسخة السطحية الظاهرية من الدين والتدين؛ لأنها تجعل أهله يغترون بنرجسية توهم أنهم أفضل الناس بعباداتهم ومظاهرهم الدينية، بينما الحقيقة تكون عكس ذلك، وتتضح في محك صدق التدين وصدق حقيقته، وهو مجال الحقوق المادية والمعنوية، فالحقيقة التي يجهلها غالبية المسلمين أن الاستغفار والأعمال الصالحة وحتى الشهادة في جهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تغفر لصاحبها خطاياه في حقوق الخلق إنما فقط تغفر له خطاياه في حقوق الله كالصلاة. روى البخاري؛ لما قتل صحابي اسمه «مدعم» أثناء خدمته للنبي في عودتهم من غزوة خيبر، فقال الناس «هنيئاً له الشهادة» فقال النبي: «كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً». وبالصحيح «يغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن»، قال النووي (شرح صحيح مسلم ج 13/‏‏ص 29): «قوله إلا الدَّين» فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله. وبالصحيح «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته.. أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار». وقال: «الدواوين عند الله ثلاثة» منها ما يغفره ومنها ما لا يغفره وذكر منها «الديوان الذي لا يترك الله -عز وجل- منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً» (أحمد والحاكم). فحقوق الناس المادية والمعنوية تبقى ديناً على الشخص وتحبس روحه بعد وفاته في حال تكون فيه محرومة من النعيم والسلام «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» (أحمد وابن ماجه والترمذي). توفي رجل فغسلناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه، فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملها أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منها الميت، قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران، فقال: إنما مات أمس قال: فعاد إليه في الغد، فقال: لقد قضيتهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الآن بردت عليه جلدته -أي ارتاحت روحه- (أحمد). وسوء المعاملة وعدم طيبها يشكل الديون المعنوية على الشخص التي لا يمكنه التحلل منها إلا بعفو صاحبها، والعفو والسماح صعب، ونادر من الناس من يعفو ويصفح حتى عن قريب وفرد من الأهل أساء معاملته مادياً أو معنوياً، وفيما أسماه الأطباء الغربيون بظاهرة الموت المؤقت/‏‏القرب من الموت- near-death experience /‏‏NDE التي سجلوا فيها ما رآه المرضى عندما توقفت قلوبهم وخرجت أرواحهم من أجسادهم قبل إنعاشهم سجلوا أن المرضى تعرضوا للحساب بعرض أعمالهم عليهم وكان أشد ما كان هناك تشديد عليه بالحساب هو الحقوق المادية والمعنوية للخلق، حتى أنه تمت المحاسبة على مرور شخص من أرض مملوكة بدون استئذان من صاحبها، وعلى أخذ (واي فاي) بدون إذن أصحابه، وعلى إيلام فأر بالإمساك بذيله بشدة عند إرادة رميه بالخارج بدل قتله، وكل حق لمخلوق كان سجناً وناراً وعذاباً على المدين به، ولذا أول ما يفعله المرضى بعد إنعاشهم هو قضاء كل حقوق الناس عليهم وتوسل العفو والسماح.