-A +A
عبده خال
حين تموت، ما الذي سيقوله الأصدقاء، والأحبة عنك؟

أخذت أرصد التأبين الذي اندلق من أفواه أو من الكيبورد -في مواقع التواصل- عن رحيل المبدع القاص محمد علوان، وقبل تلك المتابعة أُصبت بصدمة، صدمة أنني كنت أتحدث مع محمد يوم السبت، وبعد مكالمة عن عوالم القص لديه، وعن عمله القصصي الذي سيكون في معرض الكتاب، وضربنا موعداً للقاء.


موته كان صدمة لي، نعم نحن راحلون، ولكن رغبة البقاء هي المتسيدة، وإذا أغفلنا الموت تكون الصدمة، أو الحسرة لاستعجاله رحيلنا، صدمة سرت بشواظها في مركز الأعصاب، وتفرعت من الرأس للقدم، فلم أكن قادراً على استيعاب من الذي سيتحرك من نقطة الرحيل غصباً عن رغبته، ومع تلك المخاتلة ألفت على إبقاء أحبتي في مخزون ذاكرتي أحياء سعداء حتى وإن غبنا في دهاليز الحياة، يكفي شعورك أن حبيبك في مكان ما من تلك الدهاليز.

محمد علوان أستاذي الذي تعلمت منه كتابة القصة، وظللت تلميذاً لهذا الكاتب الفذ، واعترفت للجميع أنني اتكأت على تجربته القصصية، ففي بداياتي، كنت إذا كتبت قصة وتعكرت مياه تدفق الأحداث، أسلوباً أو حيلاً سردية، ألجأ إلى قراءة مجموعتي (الخبز والصمت) و(الحكاية تبدأ هكذا)، فأجد فيضاً من حيوية لأن أسلك عدة دروب لإنهاء عرقلة الكتابة.

سباعي عثمان، ومحمد علوان فتحا الدروب لكتّاب القصة من خلال النشر والرعاية.

الموت يخزن أحبابنا في مكان أمين لكي لا نجزع من فكرة الفناء النهائي، هم في جهة أخرى من نهر الحياة، ثمة حياة سوف نصلها ذات يوم، وبعدها لن نفترق.

عندما أصبت بصدمة خبر وفاة محمد علوان نشطت الذاكرة في إحصاء من رحلوا ولهم يد في دفعي للكتابة: (سباعي عثمان، محمد صادق دياب، عبدالله باخشوين، عبدالعزيز مشري، جارالله الحميد، صالح الأشقر، علي الدميني، محمد الثبيتي، عبدالفتاح أبومدين)، تذكرت الكثير ممن مهد لخطواتي الأدبية كي لا أتعثر في الطريق، رحل من رحل، وتبقى من تبقى..

موت الأديب إخلال بمواصلة جمال الحياة، هو من السلاسل الذهبية التي تزين أعناق التاريخ، وكل عقد به جوهرة كانت لامعة وسيظل لمعانها عبر الإبداع الذي لا يُطفأ.

حزن الفقد يتفرد بك، ويحيلك إلى سؤال يزلزل كيانك: (وماذا بعد؟)، هل في ذلك السؤال شعور بالعدمية، ليكن ما يكون، فمهمتك أن تنشط مجدفاً للخروج من تلك البحيرة القادرة على إغراقك، وفق المفهوم الساكن للعدمية، بينما المفهوم المشع للعدم أنه مخزن الخلق، فالخالق عز وجل يحيل العدم إلى موجودات.

آه يا محمد، يحدث لي هذا الشلل البصري، فلا أعرف ماذا أفعل سوى الصمت، والتحديق ببصيرة في ما قبل وبعد وأثناء الوجود.

جاء موتك يا محمد وأنا في بيات شتوي، لا أكلم أحداً، ولا يكلمني أحد، وقد غُطشت أيامي، فبقيت مقتعداً زاويتي في مكتبي، وقد فتحت أذنيّ لعشرات المحاضرات التي تحملها أمعاء اليوتيوب، أسمع، وأسمع، ومع كل محاضرة أتأسف على مقدار جهلي، نحن جهلاء مع مراتب الشرف الأولى مهما ادعينا وصولنا إلى المعرفة.

في إطلالة سريعة على التويتر -يوم موتك- صدمت يا محمد بخبر وفاتك، كان الخبر يتوسد حسابك الشخصي كتغريدة، وبعد انتهاء يوم وفاتك، أخذت أتابع التأبين الذي انزلق من أفواه أو قلوب من عرفك، كل الكلمات عاجزة تماماً عن تجسيد فجيعة الرحيل، أحياناً تجزم أن تلك الكلمات كتبت أو قيلت ميتة، وكأنا مهمتها اللحاق بالمتوفى قبل تيبس عظامه في قبره!

هذا هو التأبين؟

كلمات ميتة في رحيل ميت، لا شيء يلحق بك حتى نفسك تغادرك، فقط هيكلك المحمول في نعشه يسير في طرقات تعرفها أو لا تعرفها، الأهم إيصال ذلك الجسد إلى قبره، وتغطيتك بالتراب، نحن قساة حين نهيل التراب، وفي الوقت نفسه رحماء في مواراتك، وبين القسوة والرحمة يكون الموت.

ولأول مرة قمت بفعل لم أفعله مع أي راحل فقدته حتى مع رحيل أمي لم أفعل ذلك... هل كان فعلي يُنذر بأن دوري قادم؟

كنت وحيداً إلا من هواجس الرحيل، وجهت سريري نحو القبلة، ومددت جسدي على فراش وثير، وأغلقت عينيّ، وسرحت في الخيالات.

من أولهم سيعلن نبأ وفاتي؟

من ذا الذي سيُؤبن رحيلي أولاً؟

وماذا سيقال عن عبده الإنسان قبل الكاتب؟

ومن سيترحم عليّ، ومن سوف يلحقني بالذم والنقيصة، ومن ذا سيلحقني به كصديق حميم، أو عدو ذميم، ومن سيغادر معي من خلق الله إلى الضفة الأخرى؟

بقيت ممدداً لوقت غير معلوم، وكلما تحركت ساعات يوم رحيلك للأمام تصلني أخبار تأبين أناس آخرين فأسجل الراحلين معك، ليس في الدنيا يوم شاغر من الموتى، أو صائم عن الإفطار بميت، كل يوم هو كائن مفترس، يتحلل من صومه بابتلاع تمرات من صحن قلوبنا، هل تعلم من رحل معك يا محمد؟ رحل معك الملايين من سكان الأرض إلا أن إحصائي اقتصر على من عرفته صديقاً أو شخصاً معروفاً. وفي يوم رحيلك، رحل معك الشاعر كريم العراقي، وياس خضر، هو يوم لم يصطفِ الأدباء والفنانين فقط بل جذب معكم الملياردير محمد الفايد، الذي كان يوم رحيله هو يوم ذكرى موت ولده ديدي، تواريخ الموت غريبة، فقد دأبت على تحديد يوم مولد الراحل، وغالباً يكون يوم رحيل أي إنسان مطابقاً للشهر الذي ولد فيه، أو كان يوم رحيله حدوث حدث جسيم في حياة ذلك الفقيد..

** **

فوداعاً وأنا أغني (البنفسج) أغنية ياس خضر، من كلمات مظفر النواب الذي سبقكم:

يا طعم يا ليلة من ليل البنفسج

يا حلم يا مامش بمامش طبع قلبي من طباعك ذهب

يا طعم يا ليلة من ليل البنفسج

يا حلم يا مامش بمامش طبع قلبي من طباعك ذهب

ترخص واغليك واحبك ترخص واغليك واحبك

انا متعود عليك هواي يسولك ساكت ليه

يا بواريك مطول لتجيني

كانن ثيابي علي غربة قبل جيتك ومستاحش من عيوني اطوا