-A +A
علي بن محمد الرباعي
تنبني العلاقات الإنسانية على مداميك، منها فطري، ومنها مكتسب، ويقرأها كلٌّ من زاويته، فالمنتمي لثقافة دينية يرى الصداقة قَدَراً ناشئاً عن أثر (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر اختلف)، والمثقف ربما يراها تقاطع اهتمامات، وتشابه مواقف وميول، وألِف بعض العادات والسلوكيات، بينما يذهب الفيلسوف إلى أن الصداقة الحقّة هي التي تجمعك بالمختلف عنك، فيما يقرنها البعض بالنفعية المتبادلة، أو بالنزعة الإنسانية، أو القرب الجغرافي، أو الأواصر الاجتماعية التاريخية، أو حتى المذاهب، والطوائف، والأيديولوجيات.

ومن الصداقة ما يتأسس على ذاتية تتذبذب، وتتأرجح، بحسب العواطف السويّة حيناً، والمضطربة أحياناً، ومنها ما تقوم على الموضوعية، فتغدو أرسخ، وأرحب، بحكم الوعي بالكُلّي، وتغليب العفو، والتماس العذر، وحساب الكيف أكثر من الكمّ، وتجاوز الهفوات، وطي مظنة القصور في طيات يقين المحاسن، وعدم التركيز كثيراً على الزلات والسقطات والعثرات، بحكم أنه لا يخلو منها إلا معصوم.


وفي كتاب الصداقة والصديق، لأبي حيّان التوحيدي، تشخيص لواقع الصداقات، واستقصاء لحيثيات دوامها أو زوالها، وإسهاب في تجنيس الصداقة، بحسب الأفراد، وطبقاتهم ومقاماتهم، بدءًا من الملوك، والزعماء، وليس انتهاءً بالرعاع والسوَقة، ومروراً بأعوان الأمراء، والحاشية، ثم التجار، والمزارعين، والفقهاء، وأهل العلم والأدب، وقديماً قيل (شبيهُ الشيء منجذبٌ إليه).

ويُرجّح التوحيدي أن الصداقة عاطفة اصطفائية، وفضيلة إنسانية يصعب تحقيقها على الغالب، ويراها مثل كل عاطفة مرتبطة بالشعور حال الفرح والغضب، والخوف والأمن، والسعادة والحُزن، ومما يضمن بقاءها (المعاشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية والحفاظ والوفاء والمساعدة والنصيحة والبذل والمواساة، والجود والتكرم)، كما أن من مهدداتها، ومفسداتها المُنهية صلاحيتها (التتبع، والانزعاج من تميّز، والهجر، والعتب، والحسد، والمنافسة، والرياء، والنفاق، والكذب، والحِيَل، والخداع) وغيرها مما يهبط بالصداقات، من مرابع سامية إلى مراتع الهاوية.

ومن المفارقات أن البعض يُفْرِط في تعلّقه بالصداقة، وإن كبّدته الخسائر الفادحة، المادية والمعنوية، علماً بأنّ الأمثال تؤكد أن (صاحبك المُخسّر عدوك المبين)، فيما يُفرّط البعض في صداقة ما من أوّل صدمة تواجهه، ولعله يستندُ لسوء الظن الذي هو من حُسن الفطن، كما نقله التوحيدي (في الصداقة والصديق) عن جميل بن مُرة، الذي قال: (لقد صحبت الناس أربعين سنة فما رأيتهم غفروا لي ذنباً، ولا ستروا لي عيباً، ولا حفظوا لي غيباً، ولا أقالوا لي عثرة، ولا رحموا لي عَبْرَة، ولا قبلوا مني عذرة، ولا فكوني من أسرة، ولا جبروا مني كسرة، ولا بذلوا لي نصرة، ورأيت الشغل بهم تضييعاً للحياة، وتباعداً من الله تعالى، وتجرعاً للغيظ مع الساعات، وتسليطاً للهوى في الهنات بعد الهنات).

تكسر الصداقة أحياناً البروتوكول، وتُهيل الحواجز، وتزيل الكُلفة، فليس من لوازم الصداقة تقارب السنّ، ولا تداني المناصب، ولا حيازة المناقب، ولا أمتلك شجاعةً كافيةً لأخاطب الفقيد الأديب محمد علي علوان بالصديق، فهو في نظري بمقام الأب، والأخ الأكبر، والأستاذ، لكنه الأستاذ الذي يُشعرُ تلاميذه بأنهم زملاؤه، والأب الذي لا يستنكف من معاملة أولاده معاملة الرفاق، والشيخ الذي يرفع مريديه لمقام الولاية، وهكذا كان أبو غسان، رحمه الله، ليس معي وحدي، وإنما مع أجيال عرفته وتذكره بكل خير.

ولربما يا أبا غسان لو راجع أهلك فواتير هاتفك المحمول، وتتبعوا اتصالاتك خلال عام، فربما يكون رقمي صاحب الحظوة الأعلى، والمرتبة الأولى في عدد المكالمات الصادرة من هاتفك لهاتفي، تسأل أولاً (كيف الوالدة)، ثم تشرع أمامي باب الأمل، بل ربما أقول، وبكامل ثقتي، إن الأمل عندك لا باب له، لأنه مثل الماء والهواء.

صحيح أنك تجاوزت السبعين بكم عام، لكنّ روحك الشابة الوثابة تحلّق كل صباح ومساء، من جازان إلى عسير، إلى الباحة، مروراً بجدة والدمام، ولا أبالغ إن قلتُ إنك تخطر ببالنا كثيراً، لكنّنا نؤجل الاتصال بك، كي لا نُثقل عليك، فيما أنت تبادر بالمهاتفة باعتبارها واجباً أخلاقياً للاطمئنان، ثم للمثاقفة، والاستشارة المعهودة منك برغم أنك الأوسع خبرة ودراية.

أكتب لك اليوم، ولا أكتبُ عنك، لما يخامرني من شعور أنك تسمعني وتقرأني، فالرحيل (مجاز) وليس غياباً كلياً كما يظن البعض، خصوصاً أنه عندما كنتُ أُحدّثك عن جدتي رفعة، رحمها الله، وكيف تقطع بأصابعها من عصيدة العَشاء، وتقذفها لعين المساء، وهي تردد عشانا لأرواحكم، تعيدني فوراً لجدتك، عندما كانت تترقب لتحتفل بطائر العشا، فنلتقي في الاحتفاء بعالم الميتافيزيقا (الماورائيات) إلا أني وغيري كثيرون وكثيرات لم يخطر ببالنا أنك مللت منا، وزهدتنا، لإخلالنا ببعض أدبيات الصداقة، التي محضتنا إياها، فرغبتَ في الالتحاق بمن تولعت فنياً بهم، دون إشعار، أو إشارة، منك برغبتك في الانتقال.

بالطبع لعلي من أواخر المتشرفين بصداقتك، والأقل قرباً منك، ولعله شاب اللقاء الأول في منزلك سوء إرسال، وسوء استقبال، تسبب في نُفرة مُبررة، إلا أنك وبنقاء معهود طلبت رقمي من أبي عادل (علي الدميني) وتواصلت معي، وكأنّك اكتشفتَ أن انطباعَ اللقاء الأول لم يكن بالنقي ولا بالتقي ولا بالرحيم، كما يقول صديقنا المشترك (هاشم الجحدلي).

ولكي تؤكد صفاء المشاعر، استضفتني في منزلك مرتين، وتجاوبت مع رغبتي بإجراء حوار رمضاني عبر الهاتف، وعندما بعثتُ لك قبل شهر محاور مقترحة لحوار ثقافي موسّع، رحّبتَ وطلبتَ تغييراً وحذفاً وإضافة لما يمكن أن يوقع في التكرار أو الحرج، وما زلتُ أستعيدُ برغم الخبر الصادم ضحكتك المُجلجلة، بسبب تعليقي على مصطلح (محور الطوق)، إذ علّقتُ (الطوق والأسورة) وعندما تقول (نحن في المركز) فأقولُ (ونحن في الهابش) محاكاةً لك في تحويراتك الفَكِهَة، فتضحك لأنها بضاعتك، وتردد المألوف منك (حلوة).

وفي مساء اتصالك الأخير، شعرتُ أنك لم تكن تود أن تختتم المكالمة، ولأول وآخر مرة أسمع منك (أخبار أعلام) في تلك المكالمة، فكأنّك أخفيتَ وراء كلامك كلاماً.

انقدح في ذهني سبب نفورك من كتابة الرواية، وأنت الكاتب الاستثنائي، بأنك سريع الملل، وربما كان لهذا الرحيل المفاجأة مبرراته الساخرة عندك، ومنها مللك منا، ولا أملك هنا إلا أن أقول سيظل مكانك شاغراً لأنه دون مبالغة لا توجد روح مثقفة تمتلك ما نعمت به روحك من حُبّ العطاء، ناهيك عن سخاء اليد، وخفة الظل، وأشياء علمناها، وأخرى غابت أو غبنا عنها، ولا تزعل مني لو قلتُ (بدري يا بو غسان).