-A +A
عبده خال
هل فعلاً تراجعت أعداد المصلين يوم الجمعة؟

وهو السؤال الذي أراد الصديق داود الشريان إثارته من خلال تغريدة في حسابه، جاء فيها:


«قبل سنوات قليلة كان تأثير خطبة الجمعة طاغياً. يردد الناس آراء خطباء الجمعة في قضاياهم الاجتماعية، والحياتية، طوال الأسبوع. اليوم خف هذا التأثير. استبدل الناس#وسائل_التواصل، بخطبة الجمعة.

‏لم ينصرف الناس عن صلاة الجمعة. توارى إعجابهم بالخطبة. ما هي الأسباب؟ هذه القضية بحاجة إلى نقاش. وطرح أفكار حول محتوى الخطبة وأسلوب عرضها. وربط المنابر بوسائل التواصل».

وسؤال الصديق داود جاء مركباً حول انخفاض العدد، وانخفاض التأثير، وظلت الردود على تلك التغريدة أشبه بمن «يحوم حول الحمى» من غير الدخول مباشرة إلى الأسباب الجوهرية في الانخفاض.

نعم، ذهب البعض إلى ذكر أسباب تلامس الواقع المعاش بإيراد حدوث متغير يتمثل في كثافة المتغيرات التقنية في حياتنا، وهذا يشير أيضاً إلى الكم المهول من المعلومات الدينية التي تراجعت أحكامها الفقهية، تلك المعلومات التي كان خطباء الجمع -في زمن مضى- يكفرون فاعلها، والآن يمارسها الجميع من غير غضاضة، وذلك أدى إلى حدوث نوع من أنواع عدم الثقة لما يقال، خاصة إذا كان الخطيب لا يزال في إصراره القديم.

ولو بسطنا المسألة حول تخلى الشباب عن حضور الجمع مثلاً، فلا يمكن اعتبار ما يحدث يمثل ظاهرة، وإنما الظاهرة الحقيقية تشير إلى رقة أفكار الوعاظ الذين لا يزالون في استنساخ ما جاء في كتب التراث، واجترار أقوالٍ لا تتطابق مع واقع المعلومة والمعرفة المتجددة، ويخطئ أي خطيب لو اتخذ من خطبته المسائل المختلف عليه، أو التطرق إلى سير حولها الكثير من الاختلافات، أو انتقاص فئة من الفئات الإسلامية، فمثلاً حين يتحدث خطيب ما في مسألة مختلف عليها، أو يتحدث في قضية مستهلكة، فإنه لن يستطيع جذب انتباه المصلين، ولا يمكن استغرابك لمشاهدة أي مصلٍّ يحمل جواله ليتأكد ممّا يقال على مسامعه، فيسقط حديث الخطيب بلمسة زر، وأيضاً لا يمكن إغفال أن المصلين يشعرون بامتلاكهم معرفةً تفوق معرفة الخطيب خاصة ذلك الخطيب الذي وقفت معرفته في زمن ماضٍ، أو تفرد بعلم جزئي يأخذ منه وبه تناقض مع المنجزات العلمية الحديثة، فمحدودية علم الخطباء تمثل عجزاً في إفهام شاب يستقبل مئات المعارف في جميع مستويات العلوم الإنسانية والتطبيقية، والمصيبة حين تكون خطبة الجمعة مستنسخة، فكثير منا يعرف أن خطب الجمع ظلت تتناسخ منذ مئات السنوات، وكثيراً منا يعرف ما الذي سيقال في الخطبة فثلاثة أرباعها يقال في المقدمة وفي نهاية الخطبة، بينما يكون المضمون مهلهلاً، ألفنا خطب الجمع عبر التاريخ، ووصلنا إلى حالة التبلد لما يقوله بعض الخطباء.

ولأن غزارة ثقافة المصلين تفوق ثقافة وعلم الخطيب ساهم هذا الأمر في العزوف، وإن ظل الكثيرون حريصين على صلاة الجمعة، تأتي المقارنة، والبحث عن الخطيب المقنع، وهذا يفسر ضآلة المصلين في مسجد وكثافتهم في مسجد آخر.

ومن الأهمية بمكان تقديم الخطباء ذوي المعارف المختلفة، وأصحاب الحجج النصية والعقلية، فقبل سنوات خسرنا اجتذاب الفئة النابهة التي تضع أسئلة ذات إشكالية عقلية ومعرفية في آنٍ، فهذه الفئة كانت في حيرة بين العقل والنقل، وإذا سأل أحدهم قُوبل بإسكات هذا الفئة أو تجريم وتفسق السائل لأنه تجرأ وسأل ما لا يسأل، عدم الإجابة المقنعة يؤدي إلى الابتعاد أو ممارسة النفاق الاجتماعي بالموافقة على ما يقال، بينما ذلك السائل لم يقتنع.

وفكرة توحيد خطبة الجمعة ستؤدي إلى زيادة انخفاض أعداد المصلين للجمع، فبدلاً من تعدد نسخ الخطب في المساجد، ستصبح نسخة وحيدة جالبة للتقاعس أو مغيبة فضل الإصغاء لما يقال.

وأعتقد أن الحل يكمن في زيادة المعرفة للخطيب، بحيث يتمكن من تناول المواضيع الجاذبة والمقنعة للمصلين مع شرطية تمكنه من الإقناع، والإقناع يأتي بذكر تعدد الآراء التي قيلت في المسألة المتحدث فيها أو عنها، وشرطية أخرى على الخطيب التمتع بها بالحرص على عدم تناول المواضيع ذات الحساسية لدى المصلين، والمثيرة لحنق فئة ضد أخرى.

أعتقد أن الأمر منوط بالخطباء، فيجب عليهم العمل على اتساع معارفهم، فمن يحضر الجمعة بينهم أناس رفيعو المعرفة، ففيهم الأستاذ الأكاديمي، والمهندس، والطبيب، والطيار، والمستشار، وعالم الاجتماع ووووووو مئات المصلين ذوو معارف متقدمة جداً، وعلم غزير، ولهذا يجب على الخطيب احترام عقول هؤلاء المصلين، وأن يتعب لتحصيل المعرفي المقنع.