-A +A
محمد مفتي
في تاريخ العديد من الدول سيطرت القوة العسكرية على تفكير قادتها كوسيلة تبسط الدولة من خلالها نفوذها على كافة المناطق التابعة لها، كما تم اعتبارها الأداة الأساسية التي تتمكن من خلالها من فرض الاستقرار والأمان داخل حدودها، وقد كان حلم كل قائد يرجو الازدهار والتقدم لشعبه أن يعزز سلطته العسكرية ويحشد أكبر قدر ممكن من العتاد الأمني والعسكري ليحقق لشعبه الاستقرار ويتمكن من صد فوضى المخربين من الداخل والخارج.

غير أن العديد من العوامل دفعت الكثير من الدول لإعادة النظر في هذه الإستراتيجية وتحويل الانتباه -بعض الشيء- لقوى أخرى بإمكانها الإسهام في تحقيق الأمن والاستقرار ولكن من خلال رفع مستوى الوعي الشعبي، وما لاشك فيه أن لكل دولة عدداً ضخماً من المؤسسات التابعة لها، كما أن لها عدداً لا يستهان به من الأهداف والغايات الإستراتيجية التي ترغب في تحقيقها على المديين القصير أو البعيد، لذلك يتعين على كل دولة أن تستعين بالعديد من القوى الأخرى التي تساعدها على تحقيق ذلك، وتكون حلقة الوصل بين أهدافها وخططها من جهة وبين المواطن في كل مدينة وقرية من جهة أخرى، وتلك القوى هي ما يطلق عليها القوة الناعمة.


والمقصود بالقوة الناعمة هي تلك الأدوات والوسائل والتقنيات والإستراتيجيات التي لها نفس القوة والتأثير الناتج عن استخدام القوة العسكرية والعتاد الثقيل ولكن دون استخدام هذا النوع من العتاد، وبطبيعة الحال توجد العديد من أنواع القوة الناعمة غير أن أكثرها شهرة وأشدها تأثيراً هما الفن والإعلام، فكلاهما يدخل كل بيت ويؤثر في جميع أفراد المجتمع سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أن لكل منهما وسائل عديدة يمكن من خلالها تحقيق الأهداف المرجوة، وبخلاف ذلك، فقد أثبتت العديد من التجارب والخبرات المحلية والإقليمية والدولية قوة تأثيرهما وقدرتهما على تغيير المفاهيم والانتماءات الفكرية سواء من خلال تقوية النوازع الوطنية داخل كل فرد من أفراد المجتمع، أو من خلال فضح الأجندات الخارجية للأطراف المعادية وكشف نيتها المبيتة للإضرار بأمن الوطن وسلامة المواطنين.

لا شك أن الجهاز الإعلامي في أي دولة يشتمل على مؤسسات إعلامية رسمية وأخرى غير رسمية، وبقدر ما يعتمد أفراد المجتمع على الأجهزة الإعلامية الرسمية التي تمكنهم من معرفة الشؤون الداخلية لبلادهم بالتفاصيل الدقيقة والموثوق فيها، بقدر ما يحتاجون لأنواع أخرى من المنابر والمؤسسات التي تعيد صياغة وعيهم وإدراكهم وتعزز من قدرتهم على مقاومة الأفكار الضالة والمضللة، ومن المؤكد أن المحتوى الإعلامي لا يقتصر فقط على النشرات والبرامج الرسمية الحكومية، بل يتعدى ذلك إلى أنواع مختلفة من البرامج الإبداعية التي يمكن من خلالها ترسيخ الأفكار الوطنية والرد على كافة الشائعات التي يروّج لها أعداء الوطن.

أما الفن فيصعب تماماً إنكار دوره الكبير والفعّال في تشكيل وعي المواطن وتغيير أفكاره، فأدواته شديدة التأثير وقدرته على صوغ الأفكار بطريقة فنية يسهّل عليه دخول قلب كل مواطن، ومن خلال الفن الهادف سواء كان درامياً أو ساخراً تستطيع الدولة توصيل أفكارها بطريقة غير مباشرة لكل مواطن، كما تتمكن من عرض القضايا المهمة التي تتعلق بالوطن بصورة عامة، وتوصل رسائلها داخل كل بيت وإلى كل مواطن، ويسري المحتوى الفني داخل عقل المشاهد بطريقة سلسة ناعمة يكاد لا يشعر بأثرها، غير أنها تترجم لاحقاً لوعي قوى وسلوك إيجابي متماسك في مواجهة كل ما يستجد من أحداث.

لا شك أن مجالي الفن والإعلام متشابكان ويكمل بعضهما البعض، فالإعلام يحدد القضايا المهمة والفن يضع تصوراً لكيفية تناولها، كما أن الإعلام بمقدوره نقد الأعمال الفنية ولفت انتباه الجمهور لمدى أهميتها وقوة تأثيرها، وبقدر ما تسعى القوة الناعمة لتوصيل أفكار الدولة للمواطن بطرق سلسة وجذابة، بقدر ما يتوجب عليها توصيل نبض الشارع وقضاياه التي تشغله للحكومة والمسؤولين، لذلك تعد المصداقية سمة رئيسية يجب توافرها في مجالي الفن والإعلام، لأنه لا مجال للانتهازية أو الرياء فيما يتعلق بتوصيل نبض الشارع للجهات المسؤولة، أو لتوصيل أهداف الدولة لسائر المواطنين، لذلك تعتبر القوة الناعمة واحدة من أشد الأدوات مرونة وفعالية وقدرة على أن تكون حلقة وصل بين جميع قوى المجتمع الرسمية والشعبية، وبدون تفعيلها على النحو الصحيح يفقد المجتمع ركناً أساسياً من أركانه التي لا غنى عنها.