-A +A
نجيب يماني
لا أجد حرجًا في وصف قمة دول مجموعة العشرين الأخيرة في الهند بـ«قمّة الممر الاقتصادي»، من واقع أن هذا المشروع الذي أعلن عنه ولي العهد الأمين -حفظه الله- بعد توافق الدول التي وقعت على مذكرة التفاهم الخاصة به، كان الحدث الأبرز في القمة، والذي أحدث ردود فعل متباينة في أعقاب الإعلان عنه مباشرة.. وليس اختيار المملكة العربية السعودية؛ ممثلة في شخص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، للإعلان عن هذا المشروع في القمة؛ ضربًا من المجاملة السياسية؛ ولكنه يأتي منسجمًا مع مكانة المملكة السياسية والاقتصادية أولاً، والكاريزما المبهرة التي يتمتع بها ولي العهد محمد الخير بما يسجله من حضور مميز في كل قمم المجموعة ثانيًا، مضاف إلى ذلك أن هذا المشروع معني به إنشاء ممر اقتصادي جديد يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو أمر لا يتأتى تنفيذه إلا عبر المملكة بموقعها الجغرافي الإستراتيجي، مع الأخذ في الاعتبار أن المملكة مصدر موثوق للطاقة، محروس بميزات تنافسية تجعلها محورًا أساسيًا وعنصرًا مهمًا لنجاح هذا المشروع متى ما نفّذ على أرض الواقع بأهدافه الاقتصادية البحتة، والمتمثلة في إنشاء خطوط للسكك الحديدية، وربط الموانئ البحرية، لتعزيز التبادل التجاري وتسهيل مرور البضائع، وتيسير عملية نقل الكهرباء المتجددة والهيدروجين النظيف عبر كابلات وخطوط أنابيب، لتعزيز أمن الطاقة، ودعم تطوير الطاقة النظيفة، فضلاً عن تنمية الاقتصاد الرقمي عبر الربط والنقل الرقمي للبيانات من خلال كابلات الألياف البصرية.

إن التعليقات التي ذيّلت الإعلان عن هذا المشروع، تضع أهدافه الاقتصادية البحتة المشار إليها في محك تحديات جدية قبل الشروع في تنفيذه، بخاصة إذا ما نظرنا إلى ما وصف به الرئيس الأمريكي جو بايدن المشروع بقوله: «سيغير قواعد اللعبة»، ليأتي الرد سريعًا من قبل الرئيس الروسي بوتين بقوله: «أعتقد أن هذا لمصلحتنا فقط، وأعتقد أن هذا لن يؤدي إلا إلى مساعدتنا في تطوير اللوجستيات، أولاً، تمت مناقشة هذا المشروع لفترة طويلة، لعدة سنوات. وصحيح أن الأمريكيين التحقوا بهذا القطار في آخر لحظة، لكن بالنسبة لهم، لا أرى فائدة كبيرة من التواجد في هذا المشروع، ربما فقط من وجهة نظر المصلحة التجارية». فإشارة بايدن إلى «تغيير قواعد اللعبة» يعني -في جملة ما يعني- أن المشروع سيخرج من العباءة الاقتصادية ليتدثر بغطاء سياسي ويصبح إحدى أدوات «الحرب الباردة الجديدة»، الأمر الذي لن تسمح به المملكة، ولن تكون جزءًا منه، بالنظر إلى نشاطها الدبلوماسي المُعلي من قيم السلام والأمن ونبذ الحروب، بجانب حرصها على سيادة الدول على أراضيها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وفق ميثاق الأمم المتحدة، بجانب توطيد العلاقات مع الدول على قاعدة الاستفادة الاقتصادية المحققة لتطلعات الشعوب في التنمية والرفاهية، وهو ما يتبدى واضحًا في كافة التفاهمات والاتفاقيات التي أبرمتها سابقًا مع عدد من دول العالم، وتكفي الإشارات فقط إلى أن مخرجات زيارة ولي العهد الأخيرة للهند دليل على ذلك.


أما موقف الاتحاد الأوروبي من المشروع، فلم يخرج أيضًا من المنظور السياسي وليس الاقتصادي فحسب، في تماهٍ مع المنظور الأمريكي، حيث ذهب بعض المسؤولين في الاتحاد إلى القول بأن «هذا التعاون جزء أساسي من جهود الاتحاد الأوروبي لتعميق العلاقات التجارية والاستثمارية مع دول الخليج خاصة؛ ردًا على الحرب الروسية ضد أوكرانيا».. وهو الأمر الذي يتنافى بشدة مع أهداف المشروع، ويضعه في حرج قبل تنفيذه.

إن من المهم والضروري جدًا أن تعي جميع الدول أن النهج الأساسي الذي ترتكز عليه المملكة في تحالفاتها واتفاقياتها الاقتصادية منطلقه الفائدة المتبادلة، وليس السعي نحو ترجيح ميزان القوى لصالح الأطراف المتصارعة، لأي سبب من أسباب الصراع بينها، ولن تكون أي اتفاقية أو مذكرة تفاهم تبرمها المملكة مع أي جهة كانت، خصمًا على علاقتها المتميزة مع الدول الأخرى، فعلى الجميع أن يدير علاقته مع المملكة على هذه القاعدة الراسخة، فليس في هذا المشروع أي استبطانات لـ«تغيير قواعد اللعبة»، وعلى الجميع النظر إليه من الوجه الإيجابي المحقق للمنافع المشتركة، والتي تنتهي بالجميع إلى عالم أكثر استقرارًا وأمنًا وازدهارًا..

صفوة القول؛ إن مشروع الممر الاقتصادي المقترح، سيكون له مردوده العظيم على الجميع متى ما التزم ببنوده وأهدافه بصرامة تخرجه من التجاذبات السياسية، فمن المرجح أن يسهم المشروع في جعل التجارة ميسرة وتصدير الطاقة النظيفة أسهل بكثير، بخاصة في ظل المتغيرات المناخية الكارثية التي تحيط بكوكبنا.