-A +A
طلال صالح بنان
من أهم مواصفات صناعة الصحافة المعاصرة التعددية والتخصص، دون المساومة على مهنية العمل الصحافي وأخلاقياته. لقد انتهى عصر الصحافي الشامل، الذي مهمته الأساسية تغطية الأخبار والأحداث، عند وقوعها، دون أن تكون لديه خلفية متخصصة ومصادر موثقة عن صانعيها. لقد ذهب الوقت الذي يرسل فيه رئيس التحرير أي صحافي، يتوفر لديه حينها، ليغطي حدثاً طرأ فجأة، مصطحباً معه مصوراً ليلحق بقصته الصحافية الطبعة الأولى من عدد الغد.

اليوم العمل الصحافي اختلف عن تلك الصورة النمطية التقليدية للصحافي الشامل. هناك أقسام متخصصة في المؤسسات الصحافية لا تهتم فقط بالأحداث الطارئة.. أو كشف المستور في كواليس السياسة.. أو«النبش» في حياة المشاهير الخاصة، ومتابعة القضايا ذات الاهتمام الجماهيري الواسع.


وإن كان لا يمكن إغفال عامل الإثارة في مثل تلك المواضيع، وفي العمل الصحافي، بصورة عامة، إلا أن الصحافة المعاصرة تتصف بتعددية القضايا المثارة في المجتمع، وكذا الخصوصية في طبيعة خلفيتها المتفردة، كمواضيع: السياسة والاقتصاد والفن والبيئة والرياضة، وحالة الطقس. الصحافة المتخصصة لا تتطلب خلفية أساسية (علمية)، فحسب... بل أيضاً: ممارسة مهنية متخصصة ممتدة، بكل ما يتطلب ذلك من بناء علاقات وطيدة مع مصادر موثوقة، مدعمة بخلفية معرفية متابِعة لقضايا مجال التخصص والاهتمام.

المتابع للصحافة الأمريكية، هذه الأيام، يرى غلبة لتغطية الجوانب القانونية، ملاحقة للرئيس الأمريكي السابق قضائياً في ما زعمه من تزوير في انتخابات الرئاسة الأخيرة (نوفمبر ٢٠٢٠)، التي خسرها مقابل الرئيس الأمريكي الديمقراطي الحالي (جو بايدن).

وإن كان الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين حول تلك القضية سياسياً في المقام الأول، إلا أن ساحة المعركة قانونية، بامتياز. قضية تتناول نظام القيم، الذي ترتكز عليه الممارسة الديمقراطية، وكذا العلاقة بين مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة، التي ترتكز، بدورها، أساساً على صيغة الفصل بين السلطات. قضية تتناول قدسية الحقوق الفردية، في مواجهة جبروت سطوة الدولة. قضية تُختبر بها، بصورة غير مسبوقة، متانة واستقرار النظام السياسي الأمريكي.. وقيمه الليبرالية... بل وحتى مستقبل الدولة نفسها، بصيغة الحكم الفيدرالي. باختصار: قضية الديمقراطية، قيماً وممارسةً وسلوكاً، في الثقافة السياسية الأمريكية، بصورة عامة.

القضية المثارة هذه الأيام في الولايات المتحدة تتجلى في سيل التهم المنهمر الموجهة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، حيث تتوارى - نسبياً - مؤسسات النظام السياسي الرسمية، لتتصدى لها ساحة القضاء، بكل درجاته وأشكاله. فتتصدّر المؤسسات القانونية الرسمية المُمَثلَةُ في نيابة الدولة ونيابات الولايات والمحاكم، بمختلف درجاتها. بالإضافة إلى المؤسسات الحقوقية المهنية الخاصة، سواء تلك التي تختارها النيابة العامة الرسمية، تفادياً للإحراج السياسي.. أو تلك التي يختارها المتهمون والملاحقون قضائياً، من أجل الدفاع عنهم.

الرئيس السابق دونالد ترمب، إلى الآن، ملاحقٌ قضائياً، بـ ٩٢ تهمة، معظمها جنائية تتراوح بين الزعم بمسؤوليته عن هجوم مؤيدين له للكونجرس في أحداث السادس من يناير ٢٠٢١.. وما زُعم من محاولاته التدخل لتغيير نتيجة الانتخابات في بعض الولايات.. أو ما تطور لاحقاً في قضية احتفاظه بوثائق سرية، بعد خروجه من البيت الأبيض.. أو ما اُتهم به من محاولة دفع أموال لإسكات ممثلة إباحية زُعم عن علاقةٍ له بها، أو ممارسات غير قانونية لإمبراطوريته المالية.

قضايا لم يسبق أن لوحق بها أي رئيس أمريكي، فليس بمستغربٍ، إذن: أن تهتم بها الصحافة الأمريكية، ليتعدى صداها للصحافة العالمية. من هنا نجد أن المؤسسات الصحافية الأمريكية، نشطت بها أقسام القانون، حتى أن مقدمي الأخبار والبرامج الإخبارية وبرامج الحوار المختلفة والمراسلين، هم في معظمهم، من ذوي الخلفية القانونية، يستعينون بمتخصصين وأساتذة قانون، إما كمشاركين أو متعاونين أو مستضَافين، يغطون تطورات تلك القضية، من وجهة النظر القانونية، وما إذا كان الرئيس ترمب سياسياً وقانونياً ودستورياً مؤهلاً لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة (نوفمبر ٢٠٢٤)، لو تم ترشيحه لخوضها من قبل الحزب الجمهوري، حتى ولو أُدين في بعض تلك القضايا، ودخل السجن بسببها!؟

نقاشات قانونية ممتعة، ذات خلفية سياسية معقدة رُصدت لها موارد مالية سخية يقوم بإعدادها وتقديمها صحافيون، في غالبيتهم، ذوو خلفية قانونية علمية ومهنية متمرسة، بمساعدة كوكبة من المتخصصين في القانون المدني والجنائي والدستوري، يتابعون القضية أولاً بأول، تتخللها «عواجل» متتابعة، كثيراً ما ينقطع البث، للتنويه بتطوراتها.. أو انتقال البث المباشر إلى موقع تطور الحدث، أينما ووقتما حدث.

الصحافة القانونية، في وسائل الإعلام الأمريكية، نموذج متقدم ومبدع للصحافة المعاصرة المتخصصة، متعددة الاهتمامات.