-A +A
محمد مفتي
«رب كلمة قالت لصاحبها دعني» هو مثل له قصة من التراث لا مجال لسردها في هذا الحيز المحدود، لكنها حكمة تدعو كل شخص للتريث والتفكير في كل كلمة قبل النطق بها، فالبعض قد يلقي بالكلام على عواهنه بدون تفكير مسبق، وتزخر الأدبيات بجميع لغات العالم بالأمثال والحكم والمقولات التي تجرم بعض المصطلحات التي قد تسيء لصاحبها أكثر من إساءتها للآخرين، وقد تُوقع كلمة أو جملة شخصاً ما في أزمات متتالية قد لا تنتهي بل قد يجد نفسه بسببها بين يدي القضاء، فالكلمات توغر الصدور وقد تدمر العلاقات بين البشر وبين بعضهم البعض، والحكماء بطبيعتهم مقلون في حديثهم ويدركون أبعاد كل كلمة قبل التفوه بها، وقد يندر تماماً أن نجد شخصاً يكثر الكلام ولا يقع في خطأ من أي نوع؛ فقد يفشي سراً لا ينبغي له قوله، أو يظهر فكرة أو شعوراً ما كان ينبغي له أن يظهره، أو يفصح عن مكنون كان يتعيّن عليه إخفاؤه لمصلحة جميع الأطراف.

وعلى الرغم من تغير العصور ومرور الوقت، إلا أن الكثير من الأفكار تظل سليمة في جوهرها، وفي عصرنا الحديث ومع شيوع وسائل التواصل الاجتماعي التي دخلت كل بيت ووصلت لكل فرد من أفراد المجتمع، أصبح كل فرد في المجتمع يومياً يتصفح قدراً لا نهائياً من المعلومات والأخبار سواء كانت صحيحة أو خاطئة، موثوق فيها أم مضللة، وبطبيعة الحال يرغب الكثيرون في التعليق على ما يتصفحونه كما يرغبون في إبداء آرائهم فيما يحدث حولهم من أحداث.


ومع سعي غالبية المنصات الاجتماعية لتمكين كل فرد من التعليق على ما يحدث وإبداء رأيه فيما يجد من أحداث، مع السعي المحموم من الكثير من هذه المواقع والصفحات والقنوات لزيادة عدد زوارها وزيادة تفاعلهم مع ما يبثونه وينشرونه، أصبح متاحاً لأي فرد أن يتكلم ويكتب ويتفاعل، سواء ملماً بما يرغب في الحديث عنه أم يجهله تماماً، ومن هنا فقد غصت مواقع التواصل الاجتماعي بكميات لا حصر لها من المعلومات الكاذبة والأخبار المضللة والشتائم والسباب والتلاسن والتشاجر القبيح والذي قد يمتد لقاعات المحاكم في بعض الأحيان.

وعلى الرغم من سعي شركات التكنولوجيا العملاقة لحوكمة وسائل التواصل الاجتماعي وضبط محتواها من خلال إقرار الكثير من الشروط ووسائل الأمان، إلا أن المحتوى الإلكتروني بصورته الموسعة حول العالم لا يزال يعج بالاضطرابات والإساءات بجميع صورها وأشكالها، ومن المؤسف أن يظن بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أنهم بمأمن من العقاب في حال تجاوزهم حدود الأدب أو مخالفتهم لقواعد اللياقة؛ حيث يظن الكثير من هؤلاء المسيئين أنهم باختبائهم خلف شاشاتهم واستخدامهم لأسماء مستعارة قادرون على تجنّب العقاب أو السقوط تحت طائلة القانون مهما أساءوا للغير.

تصادفنا كل يوم أخبار منشورة في المواقع الرسمية عن استدعاء النيابة العامة لبعض مستخدمي التواصل الاجتماعي ممن يغردون أو ينشرون تغريدات مسيئة أياً كان نوعها أو طبيعتها، ومن الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية تقوم بدور كبير وتبذل جهداً حثيثاً لضبط المحتوى الإلكتروني، وتعد الهيئة العامة لتنظيم الإعلام واحدة من تلك الهيئات المعنية بفحص وتطوير المحتوى الإعلامي سواء كان مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً، وهي تقوم بجهود مشكورة بالفعل في ضبط المحتويات المخالفة ومراقبة ومتابعة كل ما يتم بثه ونشره عبر الفضاء الرقمي.

غير أن الجهود الرسمية وحدها دوماً لا تكفي لمحاصرة ظاهرة ما والقضاء عليها بالكامل، إذ لابد أن تتضافر جهود الدولة مع المواطنين في آن واحد، ولا شك أن توفير الدولة للمواطنين وسائل للتواصل معها للإبلاغ عن أي مخالفات أو إساءات، مكّنت العديد من المواطنين بالمشاركة في الأمر والإبلاغ عن تلك المحتويات المسيئة للجهات المختصة، وبخلاف ضبط تلك المحتويات المسيئة وإغلاقها فإن هذه المشاركة من شأنها تقوية وترسيخ مشاعر الانتماء لدى المواطنين، كما تسمح هذه المشاركة في ترسيخ القيم عند المواطنين ولاسيما لدى صغار السن منهم، وتعليمهم بأنه أفضل للمرء أن يصمت على أن يتفوه بإساءة لا يعرف مداها، وبأنه من الخير لهم التوقف عن التغريد بشيء غير مفيد أو مثمر، فرب تغريدة قالت لكاتبها «دعني».