-A +A
وفاء الرشيد
انطلق المعرض الدولي للكتاب في عاصمتنا الرياض؛ التي لا خلاف على أنها المدينة القارئة الأولى في العالم العربي بشهادة كل الناشرين.

انتهى ذلك العهد الذي كان الرواج محصوراً في الكتب التراثية وبصفة خاصة كتب العقيدة والدعوة، وكانت الكتب الفلسفية والفكرية محدودة التداول إن لم تكن ممنوعة ومحرمة.


كان كثير من الدعاة يمارسون التحكم في أذواق واختيارات القارئ والقارئة على الأخص، فيرون أن بعض المؤلفات خطيرة على الاعتقاد والدين ويجب منعها، بيد أن هذه الوصاية التي ترى في القراء قصوراً وضعفاً في العقول والإيمان لم تؤد إلا إلى عكس مرامها، حيث أقبل شبابنا على الغثّ وسقط المتاع دون تبصر أو تدبر، فغابت الظروف الملائمة للتفكير الحر والتعقل المسؤول.

كان أبو حامد الغزالي -وهو إمام أهل السنة الكبير- يقول إن الإيمان الحقيقي هو الذي يصمد بعد الاطلاع على كل الشبهات والتمعن في كل المذاهب والآراء، وألا يكون مجرد نفاق وتواطؤ أو تقليد جامد في أحسن الأحوال.

ومما يثلج الصدر في معرض الرياض؛ الذي نعيش هذه الأيام أفراحه، هو توفر شتى كتب الفلسفة والفكر والدراسات الاجتماعية والإنسانية، بما يتلاءم مع النهضة الثقافية الكبرى التي تعرفها بلادنا.

لا خوف على ديننا وتقاليدنا من الانفتاح الفكري، بل إن الانغلاق هو الذي يضعف هويتنا ويدفع شبابنا إلى التنكر لها ورفضها.

التجربة الغربية أثبتت هذه الحقيقة الراسخة، فعلى عكس ما يشاع لم يتخلص الغرب من دينه وثقافته، بل إن الحداثة كانت تجديداً وتطويراً من داخل المرجعيات التراثية نفسها.

فالحرية والتقدم والتسامح كلها قيم راسخة في ديننا وتراثنا، والغرب نفسه لم يرفعها للخروج من دينه، بل كانت في حقيقتها نتاج حركية الإصلاح الديني التي تمت بدايةً من القرن الخامس عشر في هولندا وبريطانيا وألمانيا قبل أن تنتقل إلى بقية القارة الأوروبية.

كما أن ما يسمى بالعلمانية في الغرب لم يكن أكثر من حركة تحرر من قبضة الكنيسة للسماح بتعددية المذاهب والطوائف الدينية المسيحية، وهو أمر معروف لدينا منذ قرون حيث احتضنت الدولة المسلمة شتى أنواع التعددية الدينية والطائفية دون تردد أو إشكال. لا يعني هذا الأمر الدعوة إلى استيراد العلمانية الأوربية، فلا أحد يعترض على المرجعية الإسلامية للدولة في بلادنا وبقية البلاد المسلمة، لكن المقصود هو تفسير الظاهرة في إطار التجدد الذاتي في الديانة الغربية.

لقد عشنا طويلاً تحت وهم «مخاطر الغزو الفكري»، والواقع أن الانفتاح على الثقافة الإنسانية ضروري ولا محيد عنه، ولا يمكن لأحد اليوم أن ينغلق في برج عاجي بمعزل عن بقية البشرية. وهكذا فإن دخول الكتاب الفكري لا غنى عنه للرفع من مستوى وعينا الحضاري، وذلك هو الدور الهائل الذي اضطلع به معرض الرياض الدولي للكتاب. فتحية تقدير لراعي هذه الاحتفالية الكبرى وللقائمين عليها.