-A +A
محمد مفتي
لعل أسوأ المناهج لحل القضايا العالقة -ولاسيما السياسية منها- الابتعاد عن أصل المشكلة وجوهرها والتمركز حول الحلول الهامشية والثانوية وغير الأساسية، وهو ما يؤدي بالقطع لزيادة أمد ونطاق وأبعاد المشكلة كما يفاقم من تأثير تبعاتها، فتلك الحلول أشبه بمسكنات لأمراض مزمنة ومستعصية، لا تشفي من المرض بل قد تطيل فترة بقائه وقد تزيد من آلام المريض فيما بعد على المدى الطويل، ورغم ذلك فقد يفضل بعض السياسيين منهج المراوغة والالتفاف حول سبب الصراع الأساسي، في محاولة منهم لكسب الوقت أو بسبب الانحياز الأعمى لطرف دول طرف، والرغبة في تجاهل عدوانية طرف وعدم الاعتراف بذلك.

إن الطبيعة السياسية للنظم الحاكمة في الغرب سبب جوهري لموقفها المتخاذل في العديد من المواقف الدولية، فعند تقلد رئيس دولة غربية مقاليد الحكم ممثِلاً لحزبه، فإن هذا الرئيس يسعى بشكل عمدي لإرضاء مناصريه في الحزب ممن ساهموا في انتخابه واستلامه مقاليد الحكم، وهو ما يتجسد لاحقاً في تعيينه عدداً منهم في المواقع الحساسة والوزارات السيادية، وهو ما يعني سلفاً أن الرئيس ليس حراً على نحو مطلق في اتخاذ قراراته، بل هو مقيد بموافقة هؤلاء المناصرين الذي يرتهن وجوده بوجودهم، ولهذا تصبح قراراته السيادية مقيدة بل وموزعة بين عدد من الأفراد ممن يدينون بالولاء للحزب الذي ينتمون إليه أكثر من ولائهم للرئيس نفسه.


في الولايات المتحدة نجد أن هناك حزبيْن رئيسييْن فقط هما المسيطران على المشهد السياسي الأمريكي، وهما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، وينتمي الرئيس في الغالب لأحد الحزبين، وتتم الانتخابات الرئاسية عن طريق ترشيح الحزب لأحد أعضائه عقب تصويت داخلي خاص بأعضاء الحزب نفسه، وهو ما يعني أن العضو الفائز بالترشح في سعي مستمر لإرضاء النخبة المسيطرة على الحزب التي ساهمت في ترشيحه وفوزه بالرئاسة، مما يعني أنه يظل مديناً لهم طيلة فترة حكمه وليضمن أيضاً إعادة انتخابه لفترة رئاسية مقبلة، وهو ما يعني في النهاية أن الديمقراطية في الغرب ومنها الولايات المتحدة ليست براقة كما تبدو لنا، بل هي طريقة سياسية ملتفة لسيطرة حزب على الحياة السياسية خلال فترة زمنية محددة.

من الملاحظ أن فرص المناورة التي قد يسعى بعض الرؤساء الأمريكيين لتحقيقها بعيداً عن مصالح النخبة تكون محدودة جداً خلال الفترة الرئاسية الأولى، وذلك طمعاً في الحصول على التأييد والحشد للحصول على فترة رئاسية أخرى، وقد تزيد فرص نجاح تلك المناورات خلال الفترة الرئاسية الثانية، غير أن الرئيس يظل مقيداً أيضاً بوعوده التي وعد الشعب بها بسبب رغبة الحزب نفسه في أن ينال مرشحه التالي فرصة النجاح في الانتخابات الرئاسية التالية، وهو ما يعني في نهاية الأمر أن السياسة الأمريكية تحكمها قوى داخلية قد تتصارع فيما بينها في بعض الأحيان، وهي السياسية التي قد لا يكون لها علاقة من قريب أو من بعيد بمصلحة الناخب الأمريكي، وإنما هي ليست أكثر من تجسيد لقوة التكتلات السياسية المعروفة باللوبيات في السياسة الأمريكية.

من المعروف طبعاً أن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة يملك الكثير من القوى والنفوذ، ويستطيع التأثير بقوة في عملية صنع القرارات السياسية الأمريكية خاصة المتعلقة بالسياسة الخارجية، ولعل هذا الأمر هو أحد الأسباب القوية التي تقف خلف التأييد الأعمى والانحياز غير المنطقي لإسرائيل في صراعها مع الدول العربية وعلى الأخص فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، غير أن هناك عاملاً آخراً قوياً يقف خلف محاولات قلب الحقائق وتزييف الوقائع أمام الرأي العام العالمي والأمريكي، وهو سيطرة هذا اللوبي أيضاً على بعض وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، التي تخوض حرباً شعواء لتبرئة الجانب الإسرائيلي من ممارساته العنيفة التي يقوم بها ضد الشعب الفلسطيني، مانحة إياه الحق كاملاً فيما يخوضه من حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية.

لعل إصرار زعماء بعض الدول الغربية لتبرئة ساحة إسرائيل فيما يتعلق بمحاولاتها المستمرة لقتل المدنيين مؤخراً في غزة لأبلغ مثال على التحيز الأعمى والالتفاف حول المشكلة وليس التعمق فيها، فإسرائيل تحتل بعض الأراضي العربية، وفي الوقت نفسه تستقبل مئات الألوف من المهاجرين اليهود من شتى بقاع العالم وتدعوهم للإقامة فيها، بينما تمنع أصحاب الأرض من اللاجئين الفلسطينيين من العودة لأراضيهم، أين العدالة وأين المنطق وأي حق تتحدث عنه الدول الغربية في دفاعها المستميت عن السياسة الإسرائيلية، وفي اعتقادي الشخصي أن السياسة الأمريكية لن تتغير إلا من خلال مواجهتها إعلامياً أمام شعبها لتنفضح سياساتها المبنية على تزييف الحقائق، ويتعري موقفها المخجل أمام المواطن الأمريكي الذي تُنفَق أموال ضرائبه على تسليح الترسانة الإسرائيلية لكي تقتل بها الشعب الفلسطيني.