-A +A
علي بن محمد الرباعي
يمكنُ أن نستنتج من واقعنا المعاصر دلالة شطرٍ من بيت الشعر (العِلمُ يرفعُ بيتاً لا عماد له) فنجد في حياتنا اليومية بيوتاً وعائلات، ودولاً، لم يكن لها ذِكْراً ولا صيتاً، إلا أنها بتقدمها العلمي، ومنجزها المعرفي، غدت محور حديث المنتديات والمؤتمرات، ومحط إعجاب النظرات والتنظيرات، فالعِلمُ مُقدّس في كل الشرائع والديانات، وفي الأثر (من أراد الدنيا فعليه بالعِلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعِلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعِلم).

ولعل أكبر إشكالية يعاني منها التعليم ربما في عالمنا العربي تحديداً، هي، أن ما تضخه التقنية، وما تخترق به الميديا، والسوشيال ميديا، من جدران المنازل والوعي، أضعاف ما يمكن أن يتلقاه طالب أو طالبة في مدرستيهما، وكأنما هناك سجال طويل بين تقليدية وحداثة، وما بعد حداثة، وورقي ورقمي، وعقلي وعاطفي، فالعالم غير المرئي يفكّر بالنيابة عنّا، ويصنع ويبدع ويمرر لنا ما نتلقاه بالقبول ونستمرئ به الاستهلاك، فالتعليم اليوم في تحدٍ حقيقي مع العصر الرقمي، إلا أنه وإن تحوّل عصرنا إلى رقمي، افتراضي، فلن يستطيع التخلي عن واقعيته التي تحتاج إنفاقاً بسخاء.


ولا يمكننا استثناء الصحة، فإذا ما تجاوزنا معاناة المجتمع من ومع الرُقاة الشعبيين، وعصرهم الذهبي، تقذف التقنية بين أيدينا الرقاة الإلكترونيين، وخبراء الوصفات النافخة والمفششة، والنافعة والمُنفعة، فعجّ الفضاء بما يدوّخ الرأس، ويجلب الوسواس، بسبب هذا الوهم المتضخم الذي لم يجد من يحجمه ولا يسيطر عليه، فالبشرية في عصر العِلْم لم تنزع يدها من كف الجهل، ولم تنفصل عن ثقتها العمياء بالمتاجرين بالصحة، ولا يزال بيننا الذين يتطببون على أيدي نكرات، غير عابئين بدفع الحياة والعمر ثمناً للخزعبلات، والوصفات الضارة.

يمنّ الأب على ابنه، فيقول (صرفت عليك دم قلبي لكي تتعلم وتصير على قدر المسؤولية) وأحياناً يقول على سبيل منّة التغذية (غذيتك وربيتك لين أصبحت أكبر مني، أو زيّ الجمل)! وكل هذا تحفيز وتذكير بأن جزاء الإحسان إحسان وأكثر، ولا يمكن لأبٍّ غير مسؤول ومهمل في حق أولاده وبناته؛ أو مُقصّر أن ينسب نجاحهم لنفسه، أو يدّعي فضلاً من هو ليس أهلاً له، فالأمانة التي تبرأت منها السموات والأرض والجبال؛ حملها الإنسان ظلماً لنفسه وللآخرين، وجهلاً بإمكاناته وقدراته (وخُلِق الإنسانُ ضعيفا).

وتخص الدول بالنصيب الأوفر من ميزانياتها، وزارتي التعليم والصحة، إيماناً منها بأنّ (الكثير الذي تنفقه على التعليم والصحة قليل)، ولعل ما سمعته من ترجيح بعض مسؤولي التعليم والصحة، كفة (الترشيد) على كفة الانفاق فتح باب التساؤل (عن مستوى كفاءة هذين القطاعين) على مصراعيه، فالجاهل أو محدود التعليم أو ضعيف المهارات يكلّفُ دولته الكثير طيلة عمره، ويغدو كلّاً على المؤسسات الاجتماعية والخيرية، ناهيك عن أثر السلوكيات المنحرفة، وكذاك المعلول صحياً أو المُعتل، نادراً واستثناءً ما يمكن الانتفاع به منه، ومن أمثالنا (يا شاري الدون بالدون، تحسب إنك غابن، وأنت مغبون).

وفي ظل ما نعيشه من مستهدفات، ومخرجات، رؤية وطننا الطموحة، أثقُ أن رُبّان الرؤية؛ يعوّلُ على مجتمع المعرفة، القائم على رأس المال البشري، الذي به تعزيز طموحات المستقبل، ولذا من المؤكد أن قيادتنا لن تبخل على مؤسسات التعليم والصحة، إيماناً منها بأنّ (بهما) رِفعة المجتمعات، وتقدم الحضارات، وتحقيق التطلعات، وبلوغ مراتب متقدمة من جودة وكفاءة الحياة، ورفاهية المواطنين والمواطنات.

وشأننا شأن كُل دولة معاصرة تتطلع لأن يكون شعبها على مستوى مميّز وعالٍ من التعليم وفي صحة جيّدة، فالصحة الجيّدة تجعل الفرد قادراً على العطاء بحواسه وعضلاته، والتعليم الجيّد يُكسب مهارات وقدرة على التفكير والإبداع.

طبيعي أن نتساءل ما هو ترتيبنا بين الدول الأجود تعليماً، وكم نسبة المهارات في مخرجات تعليمنا إزاء نسب دول متقدمة ومتوسطة، ومتدنية تعليمياً، لأن النسب الفعلية ستكشف لنا أين نحن؟ وماذا يجب علينا أن نفعل بالمرتبة التي بلغناها والتي نتطلع مع قيادتنا لأن نبلغها وكذلك هو الحال مع الصحة، إلا أن خصخصة القطاع الصحي ستعالج أوجه القصور في حال دخلت شركات لها سُمعة جيدة وثِقل إلى سوق وفضاء تشغيل القطاع الصحي.

أحياناً يظن بعض المسؤولين أن رضا رئيسه عنه مرهون بالترشيد، ويتوقع أن نفس الرئيس تميل إليه ولو بتحميل مؤسسته فوق طاقتها، ولو تسبب في إرباكها، إلا أن ظنه في غير محله، ويتنافى مع شغف وقناعة القائد، فالترشيد مطلب وطني وضروري، إلا أن الضرورات محكومة بظروف كل قطاع ومساراته وما يترتب عليه من مهام، وما يُنتظر منه من واجبات ومنجزات تمثّل البنية التحتية لتغذية رؤية البلاد، بالكوادر والسواعد الشابة المؤهلة.

أحد أصدقائي عمل منذ أعوام مديراً لمدارس أهلية، وفرض عليه مالك المدارس قراراً بأن يُرشّد المصروفات ويقلّص عدد المعلمين، ويعتمد آلية بتحميل أنصبة معلمين على معلمين ولو من غير التخصص، فمعلّم العلوم يمسك حصص رياضيات، واللغة العربية يدرس كيمياء، ومدرس التربية الإسلامية يتولى دروس الحاسب، فأبدى المدير تحفظاً، وقال للمالك أرجو أن تعيد النظر في قرارك فيمكن أن تكون مصروفاتنا معقولة ومخرجاتنا مميزة، أما إن ضغطنا على الصرف، وكلّفنا أساتذة بغير تخصصهم الدقيق لكي نُرشّد فستضعف مدارسنا، وربما يتسامع المجتمع بما آلت إليه مؤسستنا؛ وحينها لن يسجّل عندنا أحد، فقال المالك؛ براحتك (تبغى تستمر مديراً بنفس امتيازاتك رشّد؛ وإلا اعطها الباب وغيرك عشرات)!

يمكن لأي مؤسسة أن ترشد إنفاقها، إلا على ما يرفد البحث العلمي، والاختراع، والابتكار، ويضمن صحة طيبة، وعلاجاً ناجعاً، فالأوطان تحتاج الأطباء المميزين، والمهندسين النابغين، والفيزيائيين المُلهمين، والكيميائيين الجيدين، والترشيد ممكن ومقبول، في الوقت الذي نكتفي فيه تعليمياً وصحياً، ولن نكتفي.

ولعل شاعرنا العربي؛ سبق للفت انتباهنا لأهمية العلم والصحة بقوله:

إن المعلم والطبيب كلاهما...

لا ينصحان إذا هما لم يُكرما

فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه...

واصبر لجهلك إن جفوت معلما.