-A +A
عبدالرحمن الجديع
لا تزال توازنات القوة والهيمنة تسيطر على العلاقات بين الدول، فتبني الأحلاف وتقوّي الترسانات في وجه الأخطار التي تهبّ عليها من كل حدب وصوب. الدول اليقِظة تحصّن نفسها بهذه التحالفات وتعبّر عن براغماتيتها المطلقة. ويمكن القول، ومن واقع التجارب الإقليمية والدولية في مجال التكتلات الاقتصادية، إنه لا يوجد تكتل اقتصادي من دون إطار سياسي عام وإرادة سياسية واحدة، وبالتالي لا يمكن إغفال الاعتبارات السياسية والجيوسياسية في تأسيس التفاهمات الدولية.

العالم اليوم يجتاز تحولات ومتغيرات عميقة في العلاقات الدولية، ويشهد ولادة تفاهمات إقليمية ودولية تنعكس بالضرورة على سياقات السياسة العالمية، وعلى بنية النظام الدولي القائم، ما يتطلّب بلورة مواقف محددة، وإعادة صياغة الكثير من المفاهيم والرؤى التي تحكم الممارسات وقواعد السلوك في الساحة الدولية.


وتحمل هذه التحولات في مضامينها تحدياً لمجريات العلاقات الدولية الجيواستراتيجية، وتنعكس إفرازاتها على الأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية. ولعل من الأمثلة الساطعة على ذلك الحرب القائمة بين أوكرانيا (والغرب) وبين روسيا الاتحادية، وكذلك الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة وشعبها الأعزل بمساعدة ودعم من دول غربية.

وإزاء ذلك، يتضاءل دور النفوذ الروسي كقوة فاعلة ذات طموحات إمبراطوريّة لا تخفيها موسكو. إذاً، ثمة تحالفات تنشأ في ظلال مقاربة السلام وتوازن القوى، حيث لا حرب معلنة، وإنما صراع يشبه «الحرب الباردة»، كما نراه متجلياً في التجمعات الساعية للتصدي للنهوض الصيني، إذ تقوم الولايات المتحدة بحشد الجهود، وخصوصاً في جنوب شرق آسيا لمواجهة الصين التي بدأت إرهاصات التنافس معها تزداد وضوحاً وضراوة، نظراً للتطور الاقتصادي الذي تتمتع به الصين التي شرعت تمد جسور تواصلها في الشرق الأوسط وأفريقيا.

ويلاحظ المراقب مدى اهتمام الحكومات الأمريكية المتعاقبة بمنطقة جنوب شرق آسيا لمواجهة الطموح الصيني، لاسيما منذ عهد الرئيس الأمريكي أوباما الذي أعاد توجيه السياسة الأمريكية نحو الشرق الأقصى والشرق الأدنى، والتقليل من تواجدها في مناطق الشرق الأوسط.

النظرة الأمريكية الاستراتيجية للتصدي للنفوذ الصيني المتصاعد عبر التركيز على مفهوم تعددية الأطراف وبناء التحالفات (Multilateraism) تقوم على بلورة التجمعات، فعلى سبيل المثال هناك التجمع الرباعي المعروف باسم كواد (Quad)، الذي يضم في عضويته الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، مع أنّ الأخيرة عُرفت تاريخياً بسياستها القائمة على البعد عن المحاور، واعتماد طريق يقوم على الحياد، إذ كانت إحدى الدول المؤثرة في منظمة عدم الانحياز في ما مضى.

كما برز في مشهد جنوب شرق آسيا تجمع آخر عرف باسم (12U2)، ويضم في عضويته الولايات المتحدة والهند والإمارات وإسرائيل، حيث تجد الأخيرة قبولاً بل إعجاباً لدى دول جنوب شرق آسيا، انطلاقاً من كونها متطورة تقنياً وعسكرياً. البواعث والأهداف التي أدت إلى قيام مثل هذا التجمع تشير إلى التعاون الاقتصادي بالدرجة الأولى.

أمام هذا الواقع وما تشهده منطقة جنوب شرق آسيا من تحولات، لم يكن أمام دول مجموعة رابطة جنوب شرق آسيا المعروفة بالآسيان (Asean) والذي كان بعضها في ريبة من هذه المستجدات، إلا القبول بالديناميات الجديدة والتفاعل الإيجابي معها، انطلاقاً من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الدول الآسيوية، كما أنّ المعطيات تشير إلى بداية تبلور تفاهم بين الولايات المتحدة وإندونيسيا للمضي مع الركب.

وبلا ريب، فإنّ لهذه التجمعات الدولية دورها الفاعل، ويمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى مجموعة العشرين (G20) التي تعد حدثاً بالغ الأثر، إذ تضم في عضويتها الدول السبع الصناعية، بالإضافة إلى بعض الدول الأخرى، بما في ذلك المملكة العربية السعودية التي يعكس دورُها ومشاركتها الفاعلة في اجتماعاتها اهتمامَ وجهود القيادة السعودية في دعم الدول النامية وتخفيف حدة تداعيات التوترات العالمية الجارفة، والتركيز على التنمية المستدامة وترسيخ الأمن والسلم والاستقرار، وعلى ذلك يعوّل الحالمون بمستقبل تعيش فيه الأجيال القادمة برخاء ونماء وازدهار.