-A +A
محمد مفتي
عقب الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وتأسيس دولة إسرائيل في العام 1948 كان عدد السكان الفلسطينيين يفوق بمراحل متعددة عدد اليهود هناك، وقد أرّق هذا الأمر زعماء إسرائيل وقتذاك، ذلك أن التفوق السكاني لصالح أصحاب الأرض كان يهدد فكرة وجود دولة صهيونية من الأساس، كما أن التفوق السكاني لصالح الطرف الفلسطيني يعني تغلغلهم في مرافق الدولة مما يهدد الوجود الإسرائيلي نفسه، كما أن من أكثر الأمور التي كانت تؤرق زعماء إسرائيل هو أن العالم لن يقبل بدولة تحكمها أقلية ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، فحكم الأقليات محفوف دوماً بالمخاطر ومن السهل رفضه وعدم قبول المجتمع الدولي به، فأساس الحكم الديمقراطي في أي بلد هو الرضوخ لرأي وحكم الأكثرية، ووجود إسرائيليين أقل من الفلسطينيين يعني أن الدولة لن تصبح يهودية الهوى والهوية كما كان قادتها يأملون.

لم يجد مؤسسو دولة إسرائيل بداً من تهجير الشعب الفلسطيني كرهاً، ولذلك قاموا بالعديد من الأعمال الدموية لتحقيق هذا الهدف وكان أشهرها ما أطلقوا عليه «عملية الذعر»، التي تمكّنوا خلالها من إبادة قرى بأكملها من خلال القتل الدموي أملاً في حث سكانها على الفرار إلى الدول المجاورة، وقد تفنن الإسرائيليون وقتذاك في ارتكاب تلك المجازر البشعة بالوحشية الكافية التي أثمرت عن نزوح مئات الألوف من الفلسطينيين بالفعل ولجوئهم لدول الجوار.


وعلى الرغم من ذلك لم يترك الكثير من الفلسطينيين ديارهم وأصروا على المكوث فيها والدفاع عنها حتى الموت، وهؤلاء الفلسطينيون هم من يطلق عليهم عرب 48 الذين لا يزالون يعيشون في أراضيهم رغم الاحتلال، وعلى الرغم من كل المحاولات التي قامت بها إسرائيل لزيادة عدد اليهود عن العرب إلا أن العرب ظلوا الأكثر عدداً واحتفظوا بميزة التفوق السكاني، وهنا برقت في أذهان زعماء إسرائيل فكرة توطين اليهود من كافة دول العالم لتغيير الخارطة السكانية لصالحهم، بالرغم من أن الكثير من هؤلاء كانوا يحملون بالفعل جنسيات الدول التي ولدوا فيها.

استغل زعماء إسرائيل ورقة الأقليات خلال سعيهم لإقرار سياسة توطين اليهود داخل الأراضي الفلسطينية، فاليهود أقلية في الدول التي يعيشون فيها، وبالتالي فإن تأسيس دولة إسرائيل سيكون بمثابة الوطن الذي يضم جميع الأقليات اليهودية في دولة واحدة، وقد توافد الكثير من اليهود الذين عانوا من ويلات الحرب العالمية الثانية إلى إسرائيل أملاً في أن يصبحوا هم الأكثرية في وطن واحد.

وكما هو معروف تاريخياً فقد تدفق اليهود الفقراء لأراضي فلسطين في الوقت الذي لم يسافر فيه الأثرياء منهم وذوو النفوذ، فالدولة الإسرائيلية كانت بحاجة لهم لتشكيل لوبيات ضغط خارجية تعمل تحت الطلب لصالح الحكومة الإسرائيلية، غير أن من سافروا لإسرائيل بالفعل وقعوا في الفخ الإسرائيلي، حيث سعى زعماء إسرائيل لتوطينهم داخل أراضٍ متنازع عليها كالضفة الغربية والجولان وغلاف غزة، والهدف هو أن يشكلوا حائط صد بينهم وبين الداخل الإسرائيلي، وليصبحوا كبش الفداء في حال حدوث أي اضطرابات أو مقاومة من الدول التي احتلت إسرائيل أراضيها، وهو ما اتضح جلياً في أحداث غزة الأخيرة التي سقط مستوطنو غلاف غزة فيها في مرمى نيران المقاومة الفلسطينية.

لم يمثل هؤلاء اليهود -الكومبارس- يوماً أهمية تذكر لقادة إسرائيل الذين لم يشغل بالهم سوى السعي لتحقيق الهيمنة العددية للإسرائيليين والتفوق على أعداد الفلسطينيين بأي ثمن، لكن الكثير من هؤلاء المستوطنين أدركوا الفخ الإسرائيلي وسعوا إلى العودة من حيث أتوا، فقد وجدوا الدولة التي ينوون العيش فيها دويلة صغيرة المساحة تعيش وسط محيط عربي شاسع لا يشاركها أي شيء، ويسعى جاهداً لإعادة الأراضي التي اغتصبتها إسرائيل منهم عاجلاً أم آجلاً.

من الواضح أن قادة إسرائيل لا يبالون إلا باقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية وضمها لإسرائيل، ولتحقيق ذلك لا يبالون بحياة أو موت مواطنيهم، ولذلك نجدهم وقد توسعوا في بناء المستوطنات التي تم بناؤها بأموال التبرعات التي تبرع بها رجال الأعمال اليهود، وركزوا على توطين فئات من اليهود فيها على الرغم من الخطورة التي ينطوي عليها هذا الأمر، وقد أدرك الكثير من هؤلاء المستوطنين أنهم مجرد أرقام في السجلات الإسرائيلية، وأنهم يعيشون على صفيح ساخن بعد أن أساءت إسرائيل لهم وجعلتهم مجرد كومبارس على مسرح الأراضي الإسرائيلية.