-A +A
طلال صالح بنان
بعض من يُطلق عليهم «الليبراليون العرب»، لا يستندون في «أيديولوجيتهم» لخلفية ثقافية أو مرجعية فلسفية محددة. حتى مواقفهم السياسية، لا تنتمي لأصوليّة مذهبية وأخلاقية رائدة. هُم، ينطلقون من قيمٍ تغريبية مزيفة، عديمة الصلة بخلفية العرب التاريخية والثقافية والروحية والسياسية، وليست نتاجاً لتجارب ولا نقل: لملاحم فاصلةٍ في التاريخ السياسي للعرب، أحدثتها تطورات اجتماعية.. أو اشتعال ثوراتٍ شعبية، أو حروبٍ تاريخية فاصلة.

لم يمر التاريخ المعاصر للعرب بتحولات جذرية عنيفة، نتجت عن مراجعات قِيَمِيَة عميقة، كتلك التي حدثت في أوروبا، منذ عصر النهضة استمرت لأربعة قرون (الرابع عشر - السابع عشر)، حتى قبل ذلك وقت ظهور إرهاصات العلمانية، في القرن الثالث عشر، نتجت عنها تحولات ثقافية وروحية.. وتطورات علمية وتكنولوجية.. وحراك فكري وفلسفي، ثوري مؤثر.


إذا ما تجاوزنا وزعمنا: أن هناك، بالفعل، تحولاً أو محاولةً لتحوّلٍ ثقافيٍ في المجتمعات العربية لبناءِ فكرٍ «ليبرالي»، فقد جاء متأخراً ومُقَلِداً وهامشياً ومزيفاً. محمد علي باشا والي مصر (١٨٠٥ - ١٨٤٩)، الذي يُطلق عليه رائد نهضة مصر الحديثة، وقبله حملة نابليون (١٧٨٩ – ١٨٠٢)، يمكن تاريخياً، اعتبار هذين الحدثين «تجاوزاً» تحولات مجتمعية وفكرية، في الثقافة العربية، من بينها ظهور إرهاصات المد الليبرالي.

عدا هذه الصلة التاريخية الضيقة والبعيدة والهامشية، لا يمكن تقصّي صلة حقيقية بين الليبرالية في أوروبا، وتلك التي ولدت متأخرةً ومشوهةً في المشرق العربي. في حقيقة الأمر: بعض «الليبراليين العرب» لا تعدو «ثقافتهم الليبرالية» سوى «نسخةٍ مُزَيَفَةٍ»، لليبرالية الغربية، دون مساهمةٍ فكريةٍ تكنولوجيةٍ وعلميةٍ إبداعية، لإحْدَاثِ تراكمٍ ثقافيٍ وعلميٍ وتكنولوجيٍ مبدع، كذلك الذي حدث في مجتمعاتٍ شرقيةٍ أخرى، روسيا واليابان، مثلاً.

حتى هذه المحاكاة «المسخ» المَُقَلِّدة «تزييفاً» لثقافةِ الغربِ الليبرالية، لم تكن تطال الجذورَ، بل اكتفت بالتقاطِ القشورِ الهشةِ العَفِنَةِ المتساقط، مركزةً على الطقوسِ والشعاراتِ، ولم تتعمقْ في المضمون. مثلاً: لم تمتثل «الليبرالية العربية» لأهمِ أسسِ شرعيةِ الفلسفةِ الليبرالية، بالذات في بعديها السياسي والمجتمعي، التي تُثمنُ الحريةَ الفردية.. وتقدسُ حقوقَ الإنسان، لبناءِ صروحٍ ديمقراطيةٍ كفوء وفاعلةٍ تَحُوْلُ دون سيادة أنظمة مستبدة. بل بالعكس: كثيراً ما يصطفُ بعض «الليبراليين العرب» مع الأوضاع السياسيةِ السائدة، بحجة الحفاظِ على الاستقرارِ، خشيةَ التحولات الديمقراطية، في مجتمعات تقليدية تحكمها قيمٌ رجعية.

بصفةٍ عامة: بعض «الليبراليين العرب» هُم أقربُ لخدمةِ مصالحهم في إطار السلطة، على أن يُخْلِصُوا لـ «قيمهم الليبرالية». بل أكثر: يذهبون في نفاقهم الثقافي، لما هو أبعد من الانتهازية السياسية، إلى المساومةِ على قضايا الأمة، في مواجهة الأجنبي. هُم، على سبيلِ المثال: يفسرون علمانيتهم بأنها عداءٌ مطلقٌ مع الدِّين، بينما يسكتون عن استغلال الدين لأهدافٍ سياسية... حتى أنهم لا يرون حقيقةَ تطرف علمانيةِ الغربِ في زعمِ فصلِ الدينِ عن السياسة، بينما مرجعية الغرب الروحية، كما تتجلى في منظومة القيم «الأنجلوتوراتية»، هي جزءٌ أصيلٌ في تركيبةِ منظومةِ مؤسساتِ الحكمِ هناك، كما يتجلى واضحاً في التحالفِ الاستراتيجيِ، دعماً وولاءً للصهيونية.

كما أن بعض «الليبراليين العرب» لا تحكمهم قضايا استراتيجية قومية، ولا حتى مقتضيات الهوية الوطنية القُطْرِيَة. تجدهم «قومجيين»، في أوقات مد القضايا القومية، بشرطِ ملاءمة التوافقات السياسية، و«وطنيين شيفونيين»، عندما يحتدم الخلاف داخل النظام الإقليمي العربي! حتى أن بعضهم لا يتورع عن الكشف عن «انتماءاته»، إذا ما توفرت الظروف المحلية والإقليمية الملائمة! بالمقارنة: حتى «المكيافيلية»، في قمة تطرفها الانتهازي، تحتفظ بِمَسْحَةٍ أخلاقية، يفرضها واقع الظروف السياسية، وليس بالضرورة، تعبيراً عن طبيعة إنسانية فطرية.

بعض «الليبراليين العرب»، باختصار: بلا خلفيةٍ فكريةٍ أو فلسفية.. وبلا أساسٍ مجتمعيٍ حقيقيٍ، ولا دورٍ سياسيٍ حرٍ فاعلٍ ومؤثر. هُم يمثلون عبئاً فكرياً، بلا وزنٍ سياسيٍ البتة.. كما أنهم لا يمثلون أي إضافة ثقافية وفكرية إبداعية لليبرالية، نفسها.