في إحدى عشيّات القُرى، بالغ مهايطي في الثناء على أبيه، وتعداد محامد ليست فيه، فانبرى له أحد البسطاء، ممن لا يتحمّل وزر المبالغات، فقال له: أبوك إذا بغيت الصدق، لا كالَ مُدّاً، ولا صان عهداً، ولا حمى حدّاً، ولا حفر عِدّاً، ولا حفظ سدّاً، ولا أكرم وفداً، ولا وفّى وعداً، ولا كسب ودّاً، ولا حاز مجداً، ولا بذل في الخير جاهاً ولا جهداً، ولا سلم النجاسة، فاستحى المهايط وسكت.
لا خلاف على أن كل إنسان يولد بهويّة إنسانية (فطرية) تستمد روحها من نفخة الخالق سبحانه، وما براءة الأطفال التي تغنى بها الشعراء، إلا دليل صدق على نقاء وصفاء وثراء الهويّة الأولى، وخلوّها من أيّ مؤثرات سلبيّة، إلا أنّ هذا المولود الإنساني الفطرة، وجد نفسه، دون اختيار، بأحضان أسرة، أو عائلة، انتسب لها اسماً، وانتمى لما تنتمي إليه، معتقداً ومذهباً، وتفاعل شعورياً مع من يحبهم أهله، ومن يكرهونهم.
ومن المتصوّر، الممكن قبوله، في زمن ما قبل الدولة، أن ينضوي الإنسان تحت مظلة تؤمّن حياته، وتحقق سلامته، وتُعلي قيمته، وترتقي بمكانته، وبحكم أن المجتمعات تترقى، وتتقدم، بتطور نظامها الاجتماعي، فالطبيعي أن تبلغ سنّ الرُّشد بما بلغته من العلم والمعرفة، وتلوذ بالهويّة الوطنية، لأنها أعلى وأثرى، وناقلة من ضيق التاريخ، إلى سعة وسعادة الجغرافيا.
لستُ أدري، سرّ تمسك البعض حدّ التعصّب، بالمكوّن الثانوي، في وجود الأساسي، (الأولوي) ومن اللافت، عقب توحدنا، تحت راية دولةٍ، وطنية نموذجية، في عدلها وعدم تمييزها بين مواطنيها، أن ترى مجموعات ترتد للوراء، وتنكص على عَقِبها، برفع لواء لم تعد له سماء، فراية التوحيد تمتد بطول وعرض ومحيط وارتفاع الكرة الأرضية، ولا يصرّ على تشبثه بمغذيات العنصرية إلا صاحب هوى في نفسه، أو نعرة في وجدان بيئته التقليدية، المُعززة للقاتل من الهويّة.
كل أنواع التعصب، والتحبب للانتماءات الضيّقة، مذمومة، إذ ربما يجنح المتعصب، بحكم ما يظنه (قداسة انتماء) لمنظومته البدائية - للتطاول بيده أو لسانه، كون منظومته نمّت فيه أعرافاً تتخطى أحياناً ضوابط وحدود وأدبيات الإنسانية والعدل، ولعلّ المتعصب يغرم مبالغ مالية، يعجز عن سدادها، لأنه تحمّل فوق طاقته وما يفوق إمكاناته، في سبيل (ضيافة) صمم عليها، تفادياً لثقافة الفشيلة، ولكي لا يُتهم بالقصور، فتسلّف واستدان وربما دخل السجن في ديون طائلة، ثمنها كلمة (ونعم)، وربما يقذف أو يبهت ثانياً باللسان بدافع الحميّة لعزوته، فينحني وينثني، ويلتزم بخاتمة مبالغ فيها، واعتذارات مضاعفة، وكان بالإمكان أن يكون في حِلٍّ منها، لو تخلى عن حميّة الجاهلية.
والتعصب الديني مثلاً يضعف موقف المتعصّب، كونه أبلد من أن يعي مراد النصّ القرآني والنبوي، فينغمس في تزكية الذات، ومعاداة غيره، وبما أنه قاصر عن إدراك مراد الله، ينبري لتصفية حسابات مع خلقه، دون وجه حقّ ولا صواب.
وكل التعصبات، آثارها مؤسفة، ومُكلِفة، العرقي، والمذهبي، والطائفي، وحتى الرياضي، بل لعلّه لا يتعصب إلا ضعيف، أو مهزوز، أو مشكوك، في قدراته وجيناته.
من الدول دول فشلت فيها الحكومات، أو تعثّرت فيها المؤسسات، بسبب إعلاء المتعصبين والمنتفعين كعب مكونها الأولي التقليدي على مكوّن الدولة، متجاهلةً أو جاهلةً عظمة المنجز الوطني، وربما تقالته أمام هوياتها المُشظيّة، التي تتناسى أن الوطن هو المكتسب الأكبر، الذي يُعطي معنىً لوجود المواطن ووجدانه، وما عداه صورة شكلية خارجية و(إكسسوارات).
الوطن حياة وإحياء، والهويات القاتلة إماتة، ووطننا أمّن الناس من المخاوف، وقضى على الانقسامات والانشقاقات، وضمن للمواطن معاشه وحياته الكريمة، فالفرد فيه محفول من المهد إلى اللحد مروراً بعمر ربما يمتد لقرن، وتتكفل طيلته دولتنا أعزها الله بمؤسساتها بكل ما يلزم.
ولربما، كان دافع الالتفات للمكونات الصغرى عقدة نقص، أو غبن تاريخي، أو ضيق أفق، أو عمى بصيرة، فكم وقع من تنمر، أو تعنصر، أو تمييز، وتطاول، وهياط بسبب الشحن التعصبي، لأرواح شابة، غدت ضحية شعارات محاها العصر الذهبي لوطننا السعودي الواحد المتوحد، تحت قيادة آل سعود.
وهنا سؤال: ما معنى أن تكون هويتك وطنية آمنة، وغير قاتلة؟ والجواب في ذهني، وبحسب فهمي، أنك تحمل هويّة سعودية، تكون بموجبها مواطناً مدنياً، تنال حقوقاً، وتؤدي واجبات، دون مزايدات، وإن تعصّبت لوطنك، فلن يكون تعصبك قاتلاً لأن (الكيان) الأكبر، بنظامه وتشريعاته وحزمه وعزمه يوقف كل متجاوز عند حدّه.
ومن الموضوعية، التي أرجو أن أكون حققتها، تأكيدي على أنّ الانتماء لأهل، وأسرة، وعائلة، وقبيلة، ومنطقة، ومدينة، وقرية، ومذهب، وطائفة، وعرق، وفريق رياضي، لا نكير عليه، طالما كان في إطار حفظ الحق، ومنع الإجحاف، إلا أن وطننا السعودي احتوانا جميعاً في صدره، وذوّب بعاطفةِ الحُكم الرشيد كل المكونات فيه، عشقاً وانتماءً وولاءً، ما أشعرنا أنه فينا جميعاً، مثل ما نحن فيه.
وأي مكوّن مجتمعي، مهما بلغت قدراته، لا يمكنه أن يوفّر أمناً للكُلّ، ولا يحقق تنمية، ولا يُرسي دعائم العدل، فهي مكونات دون الدولة، وأقلّ من قامة وطن، وتقوم عصبيتها على نرجسية، وانتقائية، أحياناً انتقامية، ومفتونة بذاتها، ولا يخفى على ذي لُبٍّ، أن من مصلحة الأيديولوجية تعزيز وتغذية الهويات السَّامة، لتشطير المجتمع إلى مكونات صغرى، تفت في عضد الدولة، وتسهّل على المؤدلجين اختراقها، كون الأدلجة أشبه بالفأر الذي لو أخرجته من الباب تسلل من النافذة، أو حتى من تمديدات الصرف.
ربما لا يشعر بنعمة الأمن مَنْ عاشوا الخوف لأنهم نسيوه، وربما لا يذكر قرصة الجوع الذين باتوا صرعى المسغبة، وأصبحوا شبعى المرحمة، وربما ينكر بعض مَنْ حُرموا تعليماً وصحة وخدمات، ما كانوا فيه من حرمان، ولولا فضلُ الله علينا بهذا الوطن، لما نَعمنا بما نحن فيه وعليه اليوم.
سؤال لمن يعرفون نعمة الله ولا ينكرونها: أليست بعض الهويات قاتلة، ومُكبّدة أفدح الأثمان؟ وأليس إعلاء قيمة وشأن الوطن راحة وأمان لكل إنسان؟
لا خلاف على أن كل إنسان يولد بهويّة إنسانية (فطرية) تستمد روحها من نفخة الخالق سبحانه، وما براءة الأطفال التي تغنى بها الشعراء، إلا دليل صدق على نقاء وصفاء وثراء الهويّة الأولى، وخلوّها من أيّ مؤثرات سلبيّة، إلا أنّ هذا المولود الإنساني الفطرة، وجد نفسه، دون اختيار، بأحضان أسرة، أو عائلة، انتسب لها اسماً، وانتمى لما تنتمي إليه، معتقداً ومذهباً، وتفاعل شعورياً مع من يحبهم أهله، ومن يكرهونهم.
ومن المتصوّر، الممكن قبوله، في زمن ما قبل الدولة، أن ينضوي الإنسان تحت مظلة تؤمّن حياته، وتحقق سلامته، وتُعلي قيمته، وترتقي بمكانته، وبحكم أن المجتمعات تترقى، وتتقدم، بتطور نظامها الاجتماعي، فالطبيعي أن تبلغ سنّ الرُّشد بما بلغته من العلم والمعرفة، وتلوذ بالهويّة الوطنية، لأنها أعلى وأثرى، وناقلة من ضيق التاريخ، إلى سعة وسعادة الجغرافيا.
لستُ أدري، سرّ تمسك البعض حدّ التعصّب، بالمكوّن الثانوي، في وجود الأساسي، (الأولوي) ومن اللافت، عقب توحدنا، تحت راية دولةٍ، وطنية نموذجية، في عدلها وعدم تمييزها بين مواطنيها، أن ترى مجموعات ترتد للوراء، وتنكص على عَقِبها، برفع لواء لم تعد له سماء، فراية التوحيد تمتد بطول وعرض ومحيط وارتفاع الكرة الأرضية، ولا يصرّ على تشبثه بمغذيات العنصرية إلا صاحب هوى في نفسه، أو نعرة في وجدان بيئته التقليدية، المُعززة للقاتل من الهويّة.
كل أنواع التعصب، والتحبب للانتماءات الضيّقة، مذمومة، إذ ربما يجنح المتعصب، بحكم ما يظنه (قداسة انتماء) لمنظومته البدائية - للتطاول بيده أو لسانه، كون منظومته نمّت فيه أعرافاً تتخطى أحياناً ضوابط وحدود وأدبيات الإنسانية والعدل، ولعلّ المتعصب يغرم مبالغ مالية، يعجز عن سدادها، لأنه تحمّل فوق طاقته وما يفوق إمكاناته، في سبيل (ضيافة) صمم عليها، تفادياً لثقافة الفشيلة، ولكي لا يُتهم بالقصور، فتسلّف واستدان وربما دخل السجن في ديون طائلة، ثمنها كلمة (ونعم)، وربما يقذف أو يبهت ثانياً باللسان بدافع الحميّة لعزوته، فينحني وينثني، ويلتزم بخاتمة مبالغ فيها، واعتذارات مضاعفة، وكان بالإمكان أن يكون في حِلٍّ منها، لو تخلى عن حميّة الجاهلية.
والتعصب الديني مثلاً يضعف موقف المتعصّب، كونه أبلد من أن يعي مراد النصّ القرآني والنبوي، فينغمس في تزكية الذات، ومعاداة غيره، وبما أنه قاصر عن إدراك مراد الله، ينبري لتصفية حسابات مع خلقه، دون وجه حقّ ولا صواب.
وكل التعصبات، آثارها مؤسفة، ومُكلِفة، العرقي، والمذهبي، والطائفي، وحتى الرياضي، بل لعلّه لا يتعصب إلا ضعيف، أو مهزوز، أو مشكوك، في قدراته وجيناته.
من الدول دول فشلت فيها الحكومات، أو تعثّرت فيها المؤسسات، بسبب إعلاء المتعصبين والمنتفعين كعب مكونها الأولي التقليدي على مكوّن الدولة، متجاهلةً أو جاهلةً عظمة المنجز الوطني، وربما تقالته أمام هوياتها المُشظيّة، التي تتناسى أن الوطن هو المكتسب الأكبر، الذي يُعطي معنىً لوجود المواطن ووجدانه، وما عداه صورة شكلية خارجية و(إكسسوارات).
الوطن حياة وإحياء، والهويات القاتلة إماتة، ووطننا أمّن الناس من المخاوف، وقضى على الانقسامات والانشقاقات، وضمن للمواطن معاشه وحياته الكريمة، فالفرد فيه محفول من المهد إلى اللحد مروراً بعمر ربما يمتد لقرن، وتتكفل طيلته دولتنا أعزها الله بمؤسساتها بكل ما يلزم.
ولربما، كان دافع الالتفات للمكونات الصغرى عقدة نقص، أو غبن تاريخي، أو ضيق أفق، أو عمى بصيرة، فكم وقع من تنمر، أو تعنصر، أو تمييز، وتطاول، وهياط بسبب الشحن التعصبي، لأرواح شابة، غدت ضحية شعارات محاها العصر الذهبي لوطننا السعودي الواحد المتوحد، تحت قيادة آل سعود.
وهنا سؤال: ما معنى أن تكون هويتك وطنية آمنة، وغير قاتلة؟ والجواب في ذهني، وبحسب فهمي، أنك تحمل هويّة سعودية، تكون بموجبها مواطناً مدنياً، تنال حقوقاً، وتؤدي واجبات، دون مزايدات، وإن تعصّبت لوطنك، فلن يكون تعصبك قاتلاً لأن (الكيان) الأكبر، بنظامه وتشريعاته وحزمه وعزمه يوقف كل متجاوز عند حدّه.
ومن الموضوعية، التي أرجو أن أكون حققتها، تأكيدي على أنّ الانتماء لأهل، وأسرة، وعائلة، وقبيلة، ومنطقة، ومدينة، وقرية، ومذهب، وطائفة، وعرق، وفريق رياضي، لا نكير عليه، طالما كان في إطار حفظ الحق، ومنع الإجحاف، إلا أن وطننا السعودي احتوانا جميعاً في صدره، وذوّب بعاطفةِ الحُكم الرشيد كل المكونات فيه، عشقاً وانتماءً وولاءً، ما أشعرنا أنه فينا جميعاً، مثل ما نحن فيه.
وأي مكوّن مجتمعي، مهما بلغت قدراته، لا يمكنه أن يوفّر أمناً للكُلّ، ولا يحقق تنمية، ولا يُرسي دعائم العدل، فهي مكونات دون الدولة، وأقلّ من قامة وطن، وتقوم عصبيتها على نرجسية، وانتقائية، أحياناً انتقامية، ومفتونة بذاتها، ولا يخفى على ذي لُبٍّ، أن من مصلحة الأيديولوجية تعزيز وتغذية الهويات السَّامة، لتشطير المجتمع إلى مكونات صغرى، تفت في عضد الدولة، وتسهّل على المؤدلجين اختراقها، كون الأدلجة أشبه بالفأر الذي لو أخرجته من الباب تسلل من النافذة، أو حتى من تمديدات الصرف.
ربما لا يشعر بنعمة الأمن مَنْ عاشوا الخوف لأنهم نسيوه، وربما لا يذكر قرصة الجوع الذين باتوا صرعى المسغبة، وأصبحوا شبعى المرحمة، وربما ينكر بعض مَنْ حُرموا تعليماً وصحة وخدمات، ما كانوا فيه من حرمان، ولولا فضلُ الله علينا بهذا الوطن، لما نَعمنا بما نحن فيه وعليه اليوم.
سؤال لمن يعرفون نعمة الله ولا ينكرونها: أليست بعض الهويات قاتلة، ومُكبّدة أفدح الأثمان؟ وأليس إعلاء قيمة وشأن الوطن راحة وأمان لكل إنسان؟