-A +A
نجيب يماني
وقفتُ، كما وقف الملايين في تلك اللحظة الفارقة من عمر الزمان، أتأمل الجموع عبر الشاشة البلورية أمامي، وهي تتنقل في اللحظات الأخيرة من السنة الميلادية المنصرمة؛ 2023، فارقُ التوقيت أتاح لي أن أرى الجموع الغفيرة وهي تتصايح بحساب آخر عشر ثوانٍ من عمر السنة، لتنفجر بعدها بالصيحات العالية، مصحوبة برشقات من ألعاب نارية، وفرح غامر يغشى الوجوه، وكأن الجميع غابوا، أو أرادوا أن يغيبوا لحظة عن حقيقة العالم اليوم، والمآسي التي تدور في ساحته..

نظرتُ إليهم، وطاف بخاطري قول الطيب صالح في رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال»: [.. ونظرت إليهم، ثلاثة شيوخ وامرأة شيخة، ضحكوا برهة على حافة القبر، وفي غدٍ يرحلون، غدًا يصير الحفيد أبًا، والأب جدًا، وتستمر القافلة]..


ما هذه الكآبة وهذا الحزن؟

ما أحوجني إلى فرحهم العابر هذا في تلك اللحظة، وأنا أسارق النظر إلى الساعة بجواري لأجرب إحساسهم العجيب بدخول السنة الجديدة.. لا أشعر في داخلي بشيء متغير يوجب كل هذا الفرح؛ بل على العكس تمامًا أحسُّ في داخلي خوفًا غامضًا، وتوجسًا لا أعرف له سببًا.. ألهذا الشعور صلة بصوت الحكيم المتنبي، وهو يلحّ عليَّ في هذه الساعة منشدًا:

وما ماضِي الزَّمان بمستردٍ

ولا يومٌ يمرُ بمستعادِ

أحقًّا يجب علينا أن نبكي على ما مضى، أم نفرح بما هو آتٍ؟!

قلبي مثقل بحزن خاص وهم عام، يختلطان فلا أكاد أفرّق بينهما، وكأنما المتنبي قد عناني بقوله

كيف الرجاءُ من الخطوبِ تخلّصا

من بعدما أنشبنَ فيَّ مخالبا

أوحدنني، ووجدن حزنًا واحدًا

متناهيًا فجعلنه لي صاحبا

نعم، الحزن واحد يتفرّق أحزانًا، أكابدها، على صبر ممض، وجَلَد أخشى أن يُحلَّ وثاقه، وينفرط مُحكمِه في قلبي، فقد بلغتُ الغاية، وما لي رجاء إلا لطف الله وعفوه، وسابغ رحمته التي وسعت كل شيء.. فالله أرجو عاجل الفرج..

نعم ها الساعة بي رغبة عارمة لصنع «فرح» ما، وقد أوشكت «عقاربها» عندي هنا - في وحدتي - على الانطباق وإعلان آخر ثانية من 2023.. لا شيء تغيّر.. عَبَر مؤشر الثواني اللحظة سريعًا، فطاف بخاطري صوت خافت من «زمن الصحوة» بضمير مؤنب ينكر ويبدّع ويفسّق المحتفلين بالعام الميلادي.. زجرته، فما بي من حاجة إلى اللجاج، وأعلم أنه تقويم غريغوري مرتبط بالنصارى، نسبة إلى البابا غريغوريوس الثالث عشر؛ بابا روما في القرن السادس عشر، والذي قام بتعديل نظام الكبس في التقويم اليولياني ليصبح على النظام المتعارف عليه حاليًا، والمعروف على مستوى العالم العربي بالتقويم الميلادي، أعلم ذلك كله، لكن الحاجة إلى الفرح اليوم مع الإنسانية كلها أكبر من هذا اللجاج..

فلنفرح مع العالم، كل العالم، إن كان في فرح هذه اللحظة الإنسانية العابرة مساحة لمشترك إنساني يغيّر أو يهيئ الفرصة لتغيير هذا الواقع المتشظي.. فأينما سرّحت بصرك ألفيت حزنًا رابضًا، ودمارًا ماحقًا، وموتًا مجانيًا.. والعالم يوشك أن يغير «ساعته البيولوجية»، ونظامه البيئي، وراتبه المناخي.. كوارث طبيعية، زلزال بشكل يومي، فيضانات، حرائق لا تبقي ولا تذر، زحف صحراوي، جليد، درجات حرارة قياسية... وصوت النذير تحمله المملكة بمبادرتيها؛ «السعودية الخضراء، و«الشرق الأوسط الأخضر»، لإدراك ما يمكن، والسعي من أجل وقف هذه الكارثة الوشيكة.. لكن خطوات الاستجابة أقل من حجم الكارثة.

أقصر نظرك إن شئت في محيط العالم العربي، فالمأساة أكبر، وقد مرّت هذه السنة على فلسطين وهي تعيش كارثة إنسانية بمعنى الكلمة، فلم تُقرع أجراس الفرح في موطن ميلاد المسيح عليه السلام، وما زالت آلات الموت الإسرائيلي تحصد الأروح البريئة، وتمضي في مخطط الإبادة الجماعية بعد أن هيّأت لها «حماس» الفرصة المواتية بـ«مغامراتها الحمقاء» في السابع من أكتوبر الماضي.. حزن يمسك بخناق الروح، وينغّص العيش، ويكدّر الخاطر، ويحمل النفس على خوف متزايد من غدٍ غائم الرؤية، ملبد الأيام بالنكسات..

والحال نفسه في السودان، أزمة كلما انفتحت لها نافذة للمعالجة الحكيمة أعادتها يد «الإخوان» إلى خضم الصراع، وأشعلت نارها، ووسّعت من دوائرها، وربّت غراب البين نعيقها في محاضن مطامعها الشخصية و«التنظيمية»، والمحصلة شعب يعاني، ووطن يدمر، وشعارات زائفة تسوق الموت للسذخ والبسطاء..

لكن.. في جوف هذا الحزن الغائم، والأسى المطوّف، يطل وطني كما ألفناه، بقيادته كما عهدنها في رشد حكمها، وباصر توجهها، تواسي وتضمد الجراح، وتعمل على إخماد نار الفتن، فحق لنا الفرح بهذا الوطن، وحق علينا الولاء لقيادته، التي وضعته حيث يجب أن يكون في الذرى، وها هو العام قد مضى وقد ملأت سطور الأيام بعطاء كبير، وإنجاز باهر، وها هي اليوم تستقبل العام 2024 على مستهديات «الرؤية»، ومستشرفاتها البعيدة، وإسترايجياتها العميقة.. فمرحبًا بـ(2024)، عام خير وبشر وإنجاز.