-A +A
بشرى فيصل السباعي
تقول الحكمة «من أمن العقاب أساء الأدب» وهذا هو الحاصل في قضايا القتل العمد التي تجمع لديتها مبالغ فلكية يمكنها فتح مستشفى خيري ينقذ حياة أعداد لا تحصى من الناس، لكن بدلاً عن ذلك يدفع هذا المبلغ لمنع العقوبة عن قاتل، ويتم جمعه عبر حملات استعطاف تصور القاتل كما ولو أنه مسكين يجب أن يشعر الجميع بالتعاطف معه لدرجة تفضيل التبرع لديته على التبرع لإنقاذ حياة مريض ومعسر، مما أدى لاستسهال القتل على أتفه سبب، وهذا له عواقب خطيرة على المجتمع. ولترشيد قضية الديات يمكن إلزام من يقيمون حملات جمع الديات بنشر ملابسات الجريمة كما هي بمحضر الحكم، وتلقائياً هذا بحد ذاته سيجعل الغالبية لا تتعاطف مع المجرم القاتل ولا تشارك في دفع الدية له في قضايا القتل العمد، وهذا سيؤدي بالتالي لتخفيض قيمة الديات، وإن كان الأفضل إيقاف السماح بالدية في قضايا القتل العمد بالعموم، فعندما يكون لا مهرب من القصاص للقاتل عمداً فهذا سيكون أكبر رادع عن القتل والإجرام والشجارات العنيفة. ومن باب بيان التدليس الذي يحصل في حملات جمع الديات يتم استعمال مصطلح «عتق رقبة» للقاتل، للتدليس بأن المشاركة في ديته لها مثوبة عتق الرقبة الذي في الشرع، وإضفاء صبغة دينية على حملات جمع الديات، والحقيقة أن عتق الرقبة في الشرع هو تحرير الإنسان المستعبد المملوك، ولا يمت بصلة لمنع الحد عن المجرمين، روى البخاري رد النبي على إرادة منع الحد عن مستحقه «أتشفع في حد من حدود الله». ومن الابتزاز العاطفي الذي يمارس بحملات جمع الديات الحديث عن حزن أم القاتل، وماذا عن أم القتيل البريء؟ أليست أولى بالتعاطف والانحياز إلى صفها بخاصة وأنها أحسنت التربية ولم يصبح ولدها مجرماً، وأرجو أن يقوم الباحثون بعمل دراسات على آثار الديات على زيادة القابلية للتورط في القتل والشجارات والجرائم، وأيضاً دراسات على الأنماط السلوكية لدى القتلة الذين دُفعت عنهم الديات بعد الإفراج عنهم، وهل صاروا أعضاء صالحين بالمجتمع أم عدم تلقيهم للعقوبة جعلهم يغترون أكثر ويستمرئون متابعة أنماطهم السلوكية العنيفة؟، ودراسات على تفاصيل مصارف حملات الديات، أي ما هي عمولة من يسعون فيها وما شابه من تفاصيل مالية؟، ودراسات على آثار حملات جمع الدية على تأجيج العصبيات القبلية وتبعات هذا التأجيج بخاصة على فئة المراهقين، أي هل ترفع لديهم القابلية للتورط بالعنف؟، فمن المسكوت عنه أن سبب إقبال كثير من الأهالي على إلحاق أبنائهم بمدارس خاصة هو حمايتهم من النزعات العنيفة التي باتت سائدة لدى النشء بسبب الثقافة التي تؤجج العصبيات والسلوك المتنمر، والسؤال الأهم هو لماذا يتم جمع ستين مليون ريال لمنع العقوبة عن قاتل تعمّد القتل ولا يتم جمع ذات المبلغ لقضاء ديون الأيتام والأرامل والعاجزين وعلاج المرضى؟ فالمجتمع يجب أن يكون له موقف يدين المتورطين في سوق الدماء ويوبّخهم على عدم قيامهم بمساعٍ مماثلة لقضاء ديون المحتاجين وإنقاذ حياة المرضى، ويجب تصحيح بوصلة التعاطف من التعاطف مع القاتل وأمه إلى التعاطف مع القتيل وأهله، ويمكن تخيل شعورهم وهم يرون التعاطف يذهب بالكامل إلى جانب قاتل ابنهم، وهم فوق الحرمان من التعاطف معهم يتعرضون للضغوطات لإسقاط الحد عن القاتل، وحتى عندما يقبلون بالدية أتساءل إن كانوا يتعرضون لنظرة سلبية من المجتمع تدينهم على أنهم كما يقال باعوا دماء ولدهم مقابل المال، وكيف يتعامل الناس معهم ومع مالهم الذي هو ثمن دم ولدهم؟ وهذا السؤال مجال لدراسة.