-A +A
علي بن محمد الرباعي
تقول الحكاية إن عدداً من كبار القوم في منطقة من المناطق؛ حضروا مجلس قاضٍ في إحدى المحاكم لتقديم دعوى؛ وكان القاضي القادم من جغرافيا بعيدة مهذباً معهم، وقال سنحيل قضيتكم للجنة إصلاح ذات البين، فقالوا بصوت واحد (ما شي عدالة) فصُدم القاضي، وكاد يتخذ إجراءً، حال دونه تدخّلُ أحد كتبته، إذ شرح وأوضح للقاضي أن العبارة تعني (ما شي خلاف) أو (لا بأس ولا مانع) وإن عدل عندهم يعني (لفّ، أو مال) وربما هي في اللهجة من باب التعبير عن الشيء بضده كتسمية الصحراء (مفازة) واللديغ (سليم) وسنة الجدري (سنة الرحمة)، فاستوعب وسكن انفعاله.

لكل منطقة لهجتها بل لهجاتها، وأحياناً تتجاور قريتان، وتلحظ الفارق بين لهجة ولهجة، ولأي مجتمع من الأعراف، والعادات المعتبرة، ما هو محل (اعتداد واعتزاز) نقلاً وعقلاً، ويظل مألوف الناس وأدبياتهم من المُعتد به قضاءً وفتوى، فهناك مراعاة للزمان والمكان والأحوال.


وسجلت السيرة للنبي عليه الصلاة والسلام موقفه الإنساني والرباني من العرف والعادة، فاشترك قبل الوحي في حلف الفضول، انتصاراً لتاجرٍ وفد من زبيد ببضاعة إلى مكة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاعتلى جبل أبي قبَيس، ونادى شعراً:

يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضَاعَتُهُ

بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ

وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ

يَا لَلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ

إِنَّ الْحَرَامَ لِمَنْ تمّت كَرَامَتُهُ

وَلَا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ

فتحالفت: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العُزَّى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مُرَّة، وبنو الهون عضل، والقارة، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التميمي، لمكانته شرفاً وسناً، وتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً، إلَّا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد مظلمته، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معهم، وقال: «لقد شَهِدتُ مع عمومتي، في دار عبد الله بن جدعان (حلفاً) ما أحب أن لي بهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولو أُدْعى به في الإسلام لأَجبت».

وعندما توزّع الصحابةُ رضوان الله عليهم في الأمصار، انتشرت المدارس الفقهية، بناءً على ما حاز الصحابي، وتلاميذه من نور الوحيين؛ وظل من بقي في المدينة متمسكاً بالحديث، فيما اعتمد من ابتعد عنها على الرأي والقياس، والاعتداد بالعُرف، بحكم أن لكل مجتمع عاداته، وأعرافه التي تحقق مصلحته، وتحول دون التجاوز، ولا تصادم مقصد الشرع.

ولما تولى عامر بن مسعود الجمحي القرشي (الكوفة) إثر وفاة يزيد بن معاوية، خطب فيهم وقال (إن لكل قوم أعرافاً وعادات، وأشربةً ولذات، فاطلبوها في مظانّها، وعليكم بما يحلّ ويُحمد واكسروا شرابكم بالماء).

ومساحة بلادنا واسعة، وجهاتها تؤكد تأثرها بمذاهب فقهية عدة، وليس في ذلك مآخذ، فالشافعية مثلاً متوارثة في الجنوب بحكم القرب من اليمن، وفي الأحساء مالكية، ولعل في مناطق أحناف؛ وغيرها من المذاهب؛ وربما يثور التساؤل عن (العادات والأعراف) في ظل ما يتم يتداول في مواقع التواصل من فتاوى، أو أحكام قضائية صادرة عن مفتين، وقضاة، لا ينتمون لا ولادة، ولا دراسة، ولا سكنى للإقليم الذي يفتون له، أو يحكمون فيه، وربما ليس لديهم اطلاع ولا علم عن (عُرف المكان).

قسّم الأصوليون الحقيقة إلى لغوية وعُرفية وشرعية، وتضم الحقيقةُ العرفية (الخاص، والعام)، وقال القاضي عبدالوهاب؛ والاعتبار بالعُرف؛ إنما هو بعرف من هو له دون من ليس من أهل ذلك العرف، وأورد الزركشي في البحر المحيط «لا خلاف في إمكان العُرفية، والوقوع باستقراء كلام ذوي العلوم والصناعات».

والعُرف هو «ما استقر في النفوس، من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول»، ولا فرق بين العرف والعادة، وللاحتكام للعُرف أسباب منها الحاجة وعموم البلوى، ومكانة الموروث في وعي الناس، وبناء العرف على مصلحة، لا تخالف نصاً أو إجماعاً، وربما نشأ عن المسكوت عنه.

وعدّ المفسرون العُرفَ دليلاً مستقلاً، وفي القرآن الكريم ورد العُرف بلفظ المعروف (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) أي (المتعارف عليه)، وعندما اشتكت هند بنت عتبة، وقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ شَحِيح، وليس يُعطِيني ما يَكفِيني وولدي، إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم (خذي ما يَكفِيك وولدَك بالمعروف)، وفي الحديث توجيه بالاحتكام إلى العُرف فيما لم يُحَدِّده أو يُقَدِّره الشرع.

وكما أن العادات منها صالحة وفاسدة، فكذلك منها الحسن والقبيح، وطبيعتها التحوّل لا الثبات؛ وإذا كان بعض القضاة كانوا يردون شهادة الشاهد بسبب كشف الرأس أو الأكل في الأسواق، باعتباره قادحاً في العدالة، فإن أغلب الناس اليوم يسيرون برؤوس مكشوفة، ويأكلون في الأسواق، وإذا بطلت العلة زال الحكم كما تقول القاعدة.

لا جدال في أن الإسلام أبطل أعرافاً منها: التبني، واعتبار زوجة الأب من ميراثه، يحوزها أكبر أبنائه، وأقرّ أعرافاً منها إكرام الضيف، ومراعاة الكفاءة في النكاح، وسكت عن أعراف؛ فلم يتعرض لها بإلغاء، أو إقرار.

ومن آداب المفتي إذا ورد إليه استفتاء، أن لا يفتي بما عادته يفتي به؛ حتى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا؟ والعادات يختلف الحكم فيها باختلاف البلدان، وليست سواء؛ وجاء في الفقه الحنفي: ولكلِّ أهل بلد اصطلاح في اللفظ؛ فلا يجوز أن يفتى أهل بلد، من لا يعرف اصطلاحهم.

ولعلّ ما تعارف عليه الناس يغدو أصيلاً في ثقافتهم، وتعاملهم؛ ومن المُتعذّر على صاحب فتوى، أو قاضٍ الحكم دون السؤال عن المنطقة أو البلد التي ينتمي إليها السائل أو المتقاضي؛ فاللفظ له دلالات واحتمالات، ومعانٍ يفسرها عرف أهل ذلك البلد.

ويتعارف كل مجتمع على مصطلحات خاصة به، ربما يستنكرها مجتمع مجاور له، ناهيك عن الأبعد، فمثلاً عبارة (عرّستُ) أي؛ زوّجت؛ قبيحة عند بيئات؛ ومألوفة عند آخرين، واصطلاحات الناس، وتعابيرهم (عادات متوارثة) لا تستوجب، الإنكار الفوري دون التثبت من المعنى المُراد؛ بسؤال ذوي الخبرة والدراية.

ومن المتعارف عليه أن من الألفاظ ألفاظ تقال لمعاتبة المُعاتب، ولا يراد بها قذفه، ولا شتمه، واستعمال الأمثال والحكم في التعاملات شبه يومية واستدعاء مثلاً أو حكمة أو بيت شعر بسبب حادثة أو تصرّف لا ينبغي إدراجها ضمن الجُنح أو الجنايات؛ وربما يُفتي مفتٍ؛ أو يحكم قاضٍ؛ بناءً على عرفه؛ لا عرف المجتمع الذي ترتبط به المحكمة، أو الفتوى، دون علم بواقع الناس؛ ولا يكلّف نفسه عناء السؤال عن ما جرت به العادة عند أهل القرية أو المدينة أو المنطقة.

وعلى مرّ العصور، اعتدّ الفقهاء (مجتهدون ومُقلِدون) بالعُرف، ولذا خلت فتاواهم من الحِديّة، وقضى فيهم القضاة بما هو عرف ولذا خلت الأحكام من القسوة.